لم يقابل مشروع زياد رحباني الموسيقي الذي تبلور عام 1985، بارتياح وسط الجمهور وحتى لدى أهل الموسيقى والغناء. لا بل أثار ضجة لسببين: عبارة "جاز شرقي" التي ذيل بها زياد رحباني ألبوم "هدوء نسبي"، وهو عمله الفعلي الأول ضمن هذا المشروع، وشريط "معرفتي فيك" الذي تبعه، وكان بصوت فيروز. "جاز شرقي"، عبارة استغربها كثر، واعترف زياد نفسه لاحقًا بأنه أخطأ في استخدامها. فالجاز جاز، والشرق شرق... ولن يلتقيا. هكذا قيل وكتب يومذاك، لكن الواقع أن نمط موسيقى ذاك الشريط وأغانيه القليلة لم تكن تشبه أي نمط آخر. كانت تجسيدًا، بالنغم، لشخصية زياد، والدليل أنها تحولت، في ما بعد، نموذجًا احتذاه كثر بعده. فهو أسَّس لموسيقى جديدة، متحررة من القوالب والمألوف، لكنها غنية بالجمل الجديدة، والتوزيع القائم على الذوق والعلم، والإيقاعات الممتزجة.
أما أن تغني فيروز "حبك لإلي بلَّش متل الشفقه الكان بدّا حنان، وما كنت سئلانه وعلقانه بهـ الحلقه، ومحتاجة إنسان"، أو "ألله يخليك، خليك بالبيت"، أو "عودك رنّان... عيدا كمان ضلك عيد يا علي"... فهذا ما لم ينجُ زياد منه، انتقادات وحملات لما تنته. فقد "ارتكب"، في رأي البعض، "جريمة" في حق الموسيقى الشرقية، فخرجت من عنده "هجينة" على حساب الطرب والأساليب الشرقية المعهودة، و"أساء" إلى صورة "سفيرتنا إلى النجوم"، فبعدما جعلها تغني "البوسطة"، و"بعتّلك يا حبيب الروح" اللتين سبق لآخرَين أن أدياها (جوزف صقر وآمال غلام)، أبعدها في "معرفتي فيك" عن خط رسمه الأخوان رحباني خلال ثلاثين سنة، ميزهما عن غيرهما من الموسيقيين، شرقًا وغربًا، فكثرت في أغنياتها التعابير الشعبية (إنت الدَّقِّيق إنت الذَّوِّيق... سمِّعنا، معرفتي فيك ما كانت طبيعيه من بعد ملل...)، وطالت الأبعاد (Intervalles) وكثرت في جُمل أغانيها، الأمر الذي لم يألفه السامع.
لكن هؤلاء المنتقدين نسوا، أو تناسوا، مثلًا، أن أغنية "البوسطة" اختارها عاصي رحباني نفسه لـ"ريبرتوار" قدمته فيروز على مسرح "الأولمبيا" في باريس (1984)؛ وأن عاصي سمع أغاني "معرفتي فيك"، التي كانت جاهزة من العام 1983، وناقش فيها زياد، وأبدى إعجابه بها؛ وأن الأخوين رحباني كانا من أول من تجرأ على رفد الموسيقى الشرقية بأنواع غربية كانت مجهولة للغالبية العظمى من الشرقيين والعرب (يا حلو يا قمر، من روابينا القمر، يا ريت إنت وأنا بالبيت، يا مايلة ع الغصون، وغيرها).
لم تهدأ الضجة على مشروع زياد، بعدذاك. لكنه استمر فيه، مع ألبومات "بهـ الشكل" و"أنا مش كافر" و"شريط غير حدودي"، حيث أدى أغنيات أو مقاطع بصوته، ومع "كيفك إنت" و"مش كاين هيك تكون" و"ليالي بيت الدين"، وأخيرًا "إي في أمل" لفيروز، مع ما تخلل هذه الأعمال، من أغنيات ومقطوعات موسيقية وأعمال مسرحية وإذاعية كان مشروعه في صلبها.
شاء زياد في كل ذلك أن يقول إن الموسيقى والأغنية والشعر لا يجوز أن تبقى أسيرة الأمس، بل ينبغي أن تتطور، في استمرار، وتواكب العصر، لتكون ليست بنت الحاضر فحسب، بل الغد أيضًا.... حتى كان "مونودوز"، عمله مع سلمى مصفي الذي عَدُّه (على ما قال لكاتب هذه السطور في لقاء تلفزيوني) مشروعَه الحقيقي، حتى إذا توافرت كل الظروف (خصوصًا المادية والانتاجية)، أكمل فيه إلى النهاية.
كأننا بزياد في "مونودوز" يسأل: من يمكنه اليوم الاستماع في حفلة، أو في وسيلة إعلام، إلى عبارة "يا ليل يا عين"، يمضي فيها مطرب أو مؤدٍّ ساعات؟ ليقول ماذا؟ وأي رسالة تحمل؟. وهو كان "ردَّ" على هذه الـ"يا ليل يا عين"، بكلمة واحدة في أغنية "ع السَّنسول"... هي "ع السَّنسول".
وكأنَّنا به، بصوت سلمى، يؤكد أن الرسالة الموسيقية (فرحًا واستمتاعًا ومعنًى) تصل، ولو لم يكن حاملها ذا صوت جميل، بالمفهوم السائد للصَّوت الجميل. يكفي أن يكون صوتًا مميزًا، لا يشبه غيره، صوتًا ذا قدرة تعبيرية مسرحية، وهذا ما تختص به سلمى.
وكأنَّنا بزياد، بالمناخ الأميركي اللاتيني الطاغي على العمل، لا يستعير أو يقتبس، بل يبرهن قدرة الموسيقي الحقيقي على مقاربة كل أنواع الموسيقى، من موقعه هو. فالأميركي اللاتيني الذي يسمع هذا العمل - والقول عن تجربة وليس افتراضًا - يحس بمناخ منطقته فيه، لكنه يدرك أن مؤلفه لا ينتمي إلى تلك المنطقة.
يعترف كثر لزياد رحباني بتميزه موسيقيًّا. ولكن قلة هم المؤلفون الموسيقيون الذين يتخطون منافسة غيرهم فينافسون أنفسهم، كمثل زياد
وكأننا به، بكلمات الأغنيات التسع في "مونودوز"، يؤسس للغة شعرية جديدة، لا تختلف، أوزانًا وإيقاعات، عما سبق، لكنها تختلف بقدرتها على ترجمة الواقع بلغة الواقع... فكم عدد الأغنيات التي تحدثت عن "الحب الذي لا يموت"؟ ولكن أي أغنية منها تجرأت وسألت، كما في "وبتموت" بصوت سلمى: "إنسان هلَّق كان... بيموت"، فلماذا لا يموت الحبُّ إذًا، كما ستموت الشمس مثلًا، يومًا ما. أضف إلى كل ما سبق أن ألحان الأغنيات التسع في "مونودوز" تبدو صعبة في تركيبها (باستثناء "ولَّعت كتير")، وعصية على الأداء، لوهلة أولى، لكنها مشغولة بطريقة تجعلها مع تكرار سماعها وتردادها سهلة، بسيطة، تدخل القلب، وتنتمي فورًا إلى الذاكرة.
يعترف كثر لزياد رحباني بتميزه موسيقيًّا. ولكن قلة هم المؤلفون الموسيقيون الذين يتخطون منافسة غيرهم فينافسون أنفسهم، كمثل زياد الذي قدم إلينا "جرعة واحدة"، قد لا تكفي، فرفدها بجرعات أخرى، في انتظار ما سيكشف عنه، من ثمار سنوات الغياب الخمس، تلك، ومن أرشيفه غير المنشور بعد.