خمس سنوات، وزياد رحباني غائب عن البصر والسَّمع والظهور الإعلامي والأعمال الفنية. يوحي هذا الغياب، وقد مرَّ لبنان بأزمات ومآسٍ، لم يكن هذا الفنان المميز ليفوتها، أن ثمة مانعًا كبيرًا يحول دون أن يعبِّر، أو ربما إرادة ذاتية بعدم التعبير.
ولكن انتشرت صور له برفقة أفراد عائلته، أمه فيروز، شقيقه هلي، شقيقته ريما، في كنيسة في بكفيا، وأخرى يتناول الطعام هو وابن عمه غسان الياس رحباني.
وإذ رحت أتسقَّط أخباره، أُفدت أنه يمضي أيامًا من الأسبوع في منزل العائلة في الرابية، والأيام الأخرى في الستوديو خاصته.
تناهى إليَّ أنه أنجز عملًا غنائيًّا للطيفة، هو الثاني يجمعهما، لكنَّ وفاة والدة المغنية التونسية أجَّل إطلاقه بعض الوقت... وثمة ألبوم عمل عليه طويلًا لفيروز، عساه يرى النور، فيكون نورًا حقيقيًّا وسط الظلام الفني السائد.
زياد بدأ حاملًا مشروعًا موسيقيًا مختلفًا، علمًا أنه أحد فروع الشجرة الرحبانية التي نبتت هي الأخرى مختلفة في حديقة الغناء الشرقي - العربي.
في لقاءاتي القليلة وزياد رحباني، أفصحت له، ذات مرة، أنني باستعراضي شخصيات العالم، على أكثر من مستوى، وفي أكثر من مجال، لم أجد عبقريًّا ولد عبقريًّا سوى عاصي رحباني. يومذاك، انصرف إلى خجله.
أما أحد أسرار تلك العبقرية، فتجلت واضحة، حين أجاب في عمله الموسيقي - الغنائي، "مونودوز"، عن مجموعة أسئلة طرحها، في ما مضى، موسيقيون وشعراء ومغنون وباحثون وذواقة ونقاد، وما زالت عالقة، منها:
هل انتهى عصر أغنية الطرب الذي ساد منذ نهاية القرن التاسع عشر؟
وهل استنفدت الأغنية العربية مواضيعها ومقاماتها ووصلت إلى طريق مسدود، فباتت تكرر نفسها؟
وما وظيفة هذه الأغنية، في زمن "تعولمت" الموسيقى والغناء، وتداخلت فنونهما حتى التماهي أحيانًا؟
وهل ما زال للمطرب أو للنجم المؤدي المقام الأول، على حساب العناصر الأخرى التي تسهم في هذه "المؤسسة" المسماة أغنية؟ إجابة زياد رحباني عن هذه الأسئلة، وغيرها، ليست مباشرة، ولم تأتِ فحسب، من خلال ألبومه "مونودوز" (جرعة واحدة)، الصادر عام 2001، والذي وضع كلماته وألحانه لصوت سلمى مصفي، إحدى المشاركات في مسرحه وحلقاته الإذاعية وبعض أغانيه، منذ منتصف ثمانينات القرن العشرين. بل وسبقت هذه الإجابة الألبوم بسنوات، وربما من لحظة قرر زياد رحباني احتراف الفن، والاستقلال في عمله عن العائلة الرحبانية الكبرى. ظهرت تلاويح الإجابة في باكورة أعمال زياد رحباني الموسيقية، كلامًا ولحنًا وتأديةً، من أغنيته الأولى، وكانت لهدى، "ضلّي حبيني يا لوزية" (1970)، مرورًا بمسرحيته الأولى "سهرية" (1973)، حتى الأغنيات التي لحنها (لفيروز) في مسرحيتي "المحطة" و"ميس الريم"، ومغناة "قصيدة حب" (1972- 1975)، والمقطوعات الموسيقية فيها... وإن كان حتى ذاك الزمان متأثرًا بالمناخ الرحباني العام.
وخير شاهد على ذلك، أغنية "سألوني الناس" التي أضيفت إلى افتتاح مسرحية "المحطة"، من خارج سياقها، تحية لعاصي رحباني الذي أصيب بفالج لازمه إلى وفاته عام 1986. يومذاك، اقترح منصور رحباني أغنية تحية لعاصي يشارك فيها أفراد العائلة، جميعًا. فسأل زياد هل أعد موسيقى ما أو لحنًا يصلح للمناسبة؟ أجابه أنه سجل لحنًا لمروان محفوظ، مطلعه "أخدو الحلوين قلبي وعينيي/ أخدو الليالي العشناها سوا". أعجب منصور باللحن، وبدَّل كلماته إلى ما أصبحت عليه أغنية "سألوني الناس"، ووزعه الياس رحباني، وأدته فيروز؟
لم يشأ مروان محفوظ أن يحرم العائلة الرحبانية المفجوعة بمرض عاصي، تقديم تلك التحية إليه، وهي تحية لم تعجب عاصي قط، وقرر حين تعافى قليلًا وقصد مسرح البيكاديللي، أن يحذفها من العرض المسرحي، فقيل له إن أداءها في مطلع المسرحية يجلب مشاهدين كثرًا إلى شباك التذاكر، فامتثل على مضض. أما حسرة مروان على تلك الأغنية، فعالجها زياد بوعدٍ له: سأخصُّك بدلًا منها بلحنين "سيكسِّران الأرض"... فكانت "خايف كون عشقتك وحبَّيتك"، وكانت "يا سيف الـ ع الإعدا طايل".
وكرَّت من ثم سبحة الأعمال، عندما استقل زياد رحباني، في مسرحياته: "نزل السرور"، و"بالنسبة لبكرا، شو؟" و"فيلم أميركي طويل"، وصولًا إلى "شي فاشل" (1975-1983). ويمكن اختصار هذه الإجابة بأن زياد بدأ حاملًا مشروعًا موسيقيًا مختلفًا، علمًا أنه أحد فروع الشجرة الرحبانية التي نبتت هي الأخرى مختلفة في حديقة الغناء الشرقي - العربي، منذ بداية خمسينات القرن المنصرم. وقام هذا المشروع على ركائز ثلاث: أولًا موسيقى غير مأسورة بطابع واحد، بل متنوعة، لكنها أصبحت عند تقديمها ذات هوية خاصة. ويقول هو، في هذا المجال، إنه شخصيًا (واللبنانيون عمومًا)، تعرف إلى الموسيقى الكلاسيكية والحديثة والشرقية والجاز وغيرها، في وقت واحد، فتجمعت أنواعها في "مخه"، وعندما خرجت إلى التنفيذ بدت صاهرة كل هذه الأنواع، من دون قدرة على التمييز بين نوع وآخر. وثانيًا كلام أغنية تخطى الرومانسية الشاعرية الرحبانية، إلى شعر يغرف من الواقع اليومي كلمات، أحيانًا مستهلكة، ويصبها في قالب بسيط غير مبتذل، وفي الوقت نفسه عميق، يعكس حال المجتمع، بهمومه وأفراحه وأحزانه وقضاياه، حتى الكبير منها. وثالثًا عمل جماعي يختفي فيه دور البطولة المطلقة، فلا مطرب كبيرًا، أو مطربة، ولا ممثل كبيرًا، أو ممثلة، يكفي حضور أي منهم لإنجاح عمل ما... بل نص يفرض نفسه، أيًا يكن مؤديه، وأغنية (أطربية كانت أم شعبية أم تعبيرية) تدوم وتتردد على الألسن، وتقطع الحدود، وتفرض نفسها بثقة. ثم بدأ "المشروع الكبير"، عام 1985، مرتكزًا على هذه الأسس... تفاصيله في المقالة المقبلة الأربعاء.