تحتضن ساحة النجمة، اليوم، جلسة التبسَ أمرُها على الكثير من اللبنانيين الذين توهّموا لومضة من الزمن و"في ساعة تخلّي" أنّهم يعيشون في دولة استفاقت بعد سبات لأكثر من 13 عاماً على أزمة النزوح السوري جرّاء الحرب التي اندلعت هناك والمترافقة مع وجود سوري غير شرعي قد ينطبق عليه توصيف "النزوح الاقتصادي". الجلسة ليست في الأساس لبحث ملف النزوح وتوصيف الواقع واجتراح الحلول، فـ"بركان" النزوح الذي يلقي بحممه الاقتصادية والاجتماعية والأمنية والإجرامية على اللبنانيين منذراً بالانفجار الكبير، ربما لا يقلق الفريق الحاكم.
فلا رئيس مجلس النواب نبيه بري المتربّع على كرسيه طوال فترة النزوح، ولا رئيس الحكومة التي استقبلت النزوح عام 2011 وحكومة تصريف الأعمال عام 2024 نجيب ميقاتي وجدا طوال هذه السنوات ما يستدعي عقد جلسة نيابية مخصّصة لبحث هذا الملف. ازدياد عدد السوريين في لبنان متخطّياً الـ40% من عدد اللبنانيين، ارتفاع عدد الجرائم التي يرتكبونها، قضم النازحين فرص العمل من أمام اللبنانيين الذين يغرقون في البطالة، وتيرة نموّهم الديمغرافي الذي بدأ يشكّل خطراً على هوية لبنان ونسيجه، استفادتهم من الدعم الذي كان قائماً ومن المفترض أن يكون مخصّصاً فقط للمواطنين وكبّد الخزينة الكثير، كلّ هذه الأمور لم يرَ بري وميقاتي أنّها تستحق جلسة لبحثها.
وحده إعطاء ميقاتي "براءة ذمة" عن هبة أوروبية "مش معروف كوعا من بوعا" -والأصح أنّها ليست بهبة جديدة بقدر ما هي تجميع لمساعدات تقدّم منذ سنوات والإعلان عنها كحزمة واحدة- استدعى "هرولة" بري للدعوة الى عقد جلسة. ففي 4/5/2024، أجرى ميقاتي اتصالاً هاتفياً ببري متمنّياً عليه "الدعوة الى جلسة نيابية عامة لمناقشة موضوع النازحين، وذلك من أجل وقف الاستغلال السياسي الرخيص الحاصل في البلد في هذا الملف على حساب المصلحة العامة". وفق البيان الصادر عن رئاسة الحكومة. فكان لميقاتي ما أراد، إذ دعا بري في 7/5/2024 "إلى جلسة مناقشة حول الموقف من الهبة الأوروبية الأربعاء 15/5/2024 الساعة 11 قبل الظهر".
جلسة اليوم، إلى جانب تأمين "براءة ذمة" لميقاتي حول الرزمة المالية الأوروبية، لن تتخطّى في أفضل الأحوال عتبة إصدار توصيات كلامية مهما ارتفعت السقوف وكانت المواقف نارية. السبب أنّ ثمّة تقاطعاً بين كلّ الفرقاء على توصيف المشكلة وإجماعاً عليها مقابل الاختلاف حول كيفية مقاربتها وطبيعة الحلول الناجعة. فالجريمة التي يرتكبها أيّ سوري غير شرعي أو فرصة العمل التي يقتنصها من أمام اللبناني أو التلوث الذي يتسبّب به أو استهلاكه البنى التحتية لا تميّز بين اللبنانيين، إنّها مشكلة عابرة للطوائف والمناطق والأحزاب.
قد يكون ملف النزوح السوري الملف شبه الوحيد الذي يجمع عليه اللبنانيون. فإن تقاطع السياسيون على خطورة المشكلة لأنّ قواعدهم الشعبية سبقتهم بأشواط في رفع الصوت، فإنّهم لا يجتمعون على الحلّ. ربما من المفهوم أن يختلفوا على مقاربة الحلّ، لكن من غير الطبيعي أن يختلفوا على خطوات بديهية. صحيح أنّ مصالح اللاعبين في هذا الملف قد تتعارض، لكن الأصح أنّ مصلحة لبنان لا تحتمل التأويل أو اللغط وهي ترحيل السوريين.
حل مشكلة الوجود السوري غير الشرعي يتطلّب أولاً وجود دولة وهنا "بيت القصيد"
فلكلّ من اللاعبين في سوريا أو المعنيين بتداعيات الحرب فيها مصالحه:
* نظام بشار الأسد الذي يتعاطى مع الملف كأنّ النازحين مواطنون من دولة أخرى، يسعى إلى أهداف عدة من خلال الضغط عبر هذا الملف:
أ- الاستمرار في كسر العزلة والتطبيع مع النظام.
ب- الحصول على ضمانات بترسيخ وجود النظام.
ت- مقايضة ملف النزوح بالتعهد بإعادة إعمار سوريا.
ث- التعويض عن المداخيل المالية والاقتصادية التي يوفرها النازحون السوريون في لبنان لدمشق.
ج- السعي إلى وقف العمل بقانون قيصر.
* اللاعبون الإقليميون والدوليون على أرض سوريا من الولايات المتحدة وحلفائها وروسيا وإيران وتركيا يسعون إلى تحقيق المكاسب الجيوسياسية والمغانم الاقتصادية ولا يكترثون كثيراً لملف النزوح السوري في لبنان.
* الدول الأوروبية بحيث لا صوت يعلو لديها فوق "مدفع النزوح" ومنع تدفق النازحين السوريين بشكل غير شرعي إليها، لذا تعمل على أن يبقى لبنان منطقة عازلة بينها وبين هذا الخطر.
لذا أمام مصالح نظام الأسد وهؤلاء اللاعبين الذين إمّا لا يكترثون لخطر النزوح السوري على لبنان أو يعوقون أيّ خطوات جدّية للحلّ لأنها قد تنعكس سلباً على مصالحهم، على لبنان منطقياً أن يعمد إلى الخطوات البديهية لحلّ مشكلة الوجود السوري غير الشرعي، والتي تتطلّب أولاً أن يكون هناك دولة، وهنا "بيت القصيد"، ومن هذه الخطوات:
* ضبط الحدود البرّية مع سوريا وإقفال المعابر غير الشرعية لوقف تدفّق السوريين الذين أضحوا نازحين اقتصاديين.
* تصنيف السوريين الموجودين في لبنان وترحيل غير الشرعيين منهم بدون طلب إذن من نظام الاسد أو مفوضية اللاجئين UNHCR .
* الطلب من المفوضية والمنظمات الدولية كافّة التوقف عن دفع الأموال وتقديم الخدمات إلى السوريين في لبنان وتقديمها إليهم في سوريا بعد إنشاء مناطق آمنة عند الجانب السوري من الحدود بين البلدين.
على أمل أن لا تتحول جلسة ساحة النجمة إلى "هرج ومرج" أو حفلة مزايدات
بناء على ما تقدّم، من شبه المستحيل أن يترجم تقاطع الفرقاء اللبنانيين على خطورة المشكلة تقاطعاً على الحل. فـ"حزب الله" وحلفاؤه يبرّرون للأسد فرض عودة مشروطة لمواطنيه. أكثر من ذلك، لا يزال مسلحو "الحزب" في الميدان السوري ووجودهم يحول دون عودة بعض النازحين إلى قراهم. كما أنّ حركية "الحزب" الميدانية تمنع ضبط الحدود. كذلك، رفعوا شعار "فتح البحر" للضغط على الأوروبيين. في هذا الإطار، دعا الأمين العام لـ"الحزب" السيد حسن نصرالله في 13/5/2024 المجتمعين في ساحة النجمة إلى "اتخاذ موقف وطني لبناني لفتح البحر أمام المغادرة الطوعية للنازحين السوريين نحو أوروبا"، مضيفاً: "عندما يُتخذ قرار كهذا سيأتي كلّ الغرب والأوروبيين إلى لبنان ويدفعون بدل المليار 20 ملياراً... فلنفتح البحر أمام النازحين السوريين بإرادتهم بدلًا من تعريضهم للخطر عبر الرحيل بطرق غير شرعية، وهذا يحتاج لغطاء وطني". أوليس من الأسهل تسهيل عودتهم عبر المعابر الشرعية وضبط الحدود عوض جعل لبنان خارج الانتظام الدولي العام وانتهاك سيادته واستقراره؟ كذلك، هناك فرقاء يتخوّفون من "زعل" الأوروبيين وتراجع دعمهم المالي.
فيما أطراف كـ"القوات اللبنانية" تلوّح بالوصول الى حدّ التقدم بشكوى على الـ UNHCR التي تتلكأ عن تأمين ترحيل السوريين إلى بلد ثالث كون لبنان بلد عبور لا نزوح. كما تحضّ و"التيار الوطني الحر" و"الكتائب" وغيرهما، البلديات على تطبيق التعاميم الصادرة عن وزارة الداخلية، وهذا ما يسهم في تقليص مخاطر الوجود السوري غير الشرعي بانتظار قيام دولة. أمّا لمن يدّعي أنّ خطوات ترحيل بعض البلديات للسوريين المخالفين ليست سوى ترحيلهم إلى مناطق أخرى، فالجواب بسيط، فلتتحمّل كلّ بلدية مسؤولية تطبيق القانون كما ربيباتها، وحينذاك لن يكون أمام السوريين غير الشرعيين إلّا العودة إلى ديارهم.
من هنا، لا جلسة 15/5/2024 النيابية ولا مؤتمر بروكسيل في 27/5/2024 سيحملان أي علاج للملف، فالحلّ يتطلّب أولاً قيام دولة تتجرّأ على رمي "كرة النزوح المتفجرة" بوجه نظام الأسد والمجتمع الدولي والـUNHCR في آن واحد، وعلى ضبط حدودها. لكن على أمل أن لا تتحول جلسة ساحة النجمة إلى "هرج ومرج" أو حفلة مزايدات وعسى أن يتم استغلال عقد الجلسة لطرح موضوع "الهبة الأوروبية" من أجل وضع الإصبع على جرح العرقلة.