35 عاماً مضت على وثيقة الوفاق الوطني التي عُرفت بـ"اتفاق الطائف"، والتي أتت نتيجة قرار دولي بوقف الحرب لا بقرار داخلي. حينذاك، كان ثمّة مساع لإشاعة مناخ ملائم في الشرق الأوسط تمهيداً لسلام تاريخي ينهي الصراع العربي – الإسرائيلي، الذي بدأت معالمه مع "انتفاضة الحجارة" الأولى في فلسطين في 8-12-1987 لاستيلاد حدّ أدنى من الوجود المعنوي الفلسطيني في وجه إسرائيل. استمرت الانتفاضة حتّى عام 1992 حين بدأت المفاوضات بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل وتُوّجت بتوقيع اتفاق أوسلو عام 1993.
يومذاك، لم تطوَ صفحة الحرب في لبنان بقرار محلّي واقتناع تامّ بقدر ما طُويت جرّاء قرار ومصلحة دوليين. ففي إطار رسم مسار للسلام في المنطقة، حظي لبنان بوقف الحرب عبر "اتفاق الطائف". أملَ كثير من اللبنانيين أن يشكل هذا الاتفاق جسر عبور إلى سلام مستدام ينهي جولات الحروب المتكرّرة كل بضع سنوات - من 1958 إلى 1969 و1973 وصولاً إلى الانفجار الكبير عام 1975 – وورشة لاستنهاض الدولة ومؤسساتها على إيقاع الدستور والقوانين. لكنّه كان سلاماً افتراضياً إذ لم تتبعه أيّ تنقية للذاكرة بل ممارسات غالب ومغلوب.
لم يكن "الطائف" ليبصر النور لولا الغطاء المسيحي الذي وفّره البطريرك الراحل مار نصرالله بطرس صفير ورئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع.
وسرعان ما انقلب صانعو "الطائف" العرب والدوليون على "الطائف" في ذاته لمّا تبدّلت مصالحهم، فلزّموا لبنان لنظام حافظ الأسد في سوريا مكافأة على انضمامه إلى التحالف الدولي لتحرير الكويت بعدما اجتاحها العراق برئاسة صدام حسين. همّهم لم يكن نهوض لبنان بقدر ضبطه عسكرياً وأمنياً متى كرّت سبحة التطبيع مع إسرائيل، ومن أكفأ من الأسد للعب دور "الشرطي"؟. قمع التظاهرة التي خرجت للتنديد بـ"اتفاقية أوسلو" في 13-9-1993 وسقط 9 مدنيين برصاص القوى الأمنية تحت جسر المطار، والأهمّ هو أنّ الامتصاص الفوري لتداعيات الفاتورة الدموية خير دليل على ذلك.
في الأساس، لم يكن "الطائف" ليبصر النور لولا الغطاء المسيحي الذي وفّره البطريرك الراحل مار نصرالله بطرس صفير ورئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع، خصوصاً أنّ الأخير لم يكن يهاب الإطاحة باتفاقات أو معادلة دولية متى اعتبر أنّها ليست لمصلحة مجتمعه. خير مثال، إسقاطه "الاتفاق الثلاثي" عام 1986 عبر "انتفاضة 15 كانون" ورفضه إملاءات الأسد عبر مساعد وزير الخارجية الأميركية ريتشارد مورفي والتهديد "مخايل الضاهر أو الفوضى". لكن الأكيد أيضاً أنّه لم يكن ليولد "الطائف" بشكله الحالي لولا أداء العماد ميشال عون المتمرّد على المهمة المنوطة به كرئيس حكومة انتقالية وحروبه من "14 شباط" الى "حرب التحرير" وصولاً الى "حرب الإلغاء" التي أضعفت المسيحيين وأوصلتهم منهكين إلى طاولة التفاوض.
اليوم، أثبت النظام اللبناني عقمه:
* لا تداول سلساً للسلطة. فرئيس الجمهورية قبل "انتفاضة الاستقلال" عام 2005 كان يأتي ويمدّد له بكلمة واحدة من عنجر. أمّا بعدها، فبات رئيس الجمهورية لا يأتي إلّا على وقع تعطيل على مدى بضع سنوات لم يخلُ أحياناً من خضّات دموية كـ"7 أيار".
* لا استقرار مستداماً في البلاد. فشبح الحرب حاضر حتى عند وقوع إشكالات فردية وإن اختلفت صورتها من انقسام مسلم – مسيحي في العام 1975 الى انقسام بين "محور الممانعة" الذي بالإمكان إيجازه بكلمة واحدة "حزب الله" وبين "الفريق السيادي".
* لا ازدهار ونمو حقيقيين بل انهيار مالي ونقدي واقتصادي غير مسبوق. فشل النظام بحماية "عَرق" اللبنانيين في المصارف، فأهدر بفساده وسوء إدارته جنى عمرهم وتبخّرت أموالهم.
* لا وقف جدياً للعدّ كما نصّ "الطائف" بل تلويح بين الفينة والأخرى بالسلاح "الديمغرافي" من قبل فريق يتباهى بالقدرة على طلب "الإنتاج". فطيف "المثالثة" حاضر منذ مؤتمر "سان كلو" الفرنسي عام 2007.
* لا مساواة بين اللبنانيين. فعلى سبيل المثال، فإنّ المعتقلين المحرّرين من السجون الإسرائيلية بسمِن، والمعتقلين المحرّرين من السجون السورية بزيت. من تعامل من عناصر الجيش اللبناني في زمن الحرب مع "القوات اللبنانية" طرد من الخدمة، فيما بقي الآخرون معزّزين مكرّمين. من أُرغموا في زمن الحرب على التعامل مع إسرائيل - يوم تخلّت عنهم دولتهم وظلّ العسكر منهم تصله رواتبه من الدولة اللبنانية لسنوات - يلاحقون إلى اليوم. أمّا من تعامل مع دول عدة على حساب لبنان إلى اليوم فلم يُساءلوا بكلمة.
* لا شراكة في القرار الوطني، وخير دليل تفرّدُ "حزب الله" بقرار فتح جبهة الجنوب في 8 تشرين الأول، وبقرار الحرب والسلم وفرض إيقاعه على رسم السياسات الخارجية.
لذا بدأت ترتفع أصوات – وخصوصاً مسيحية - منادية بإعادة النظر في النظام القائم، في طليعتها "القوات اللبنانية" و"الكتائب" وحتى "التيار الوطني الحر" ولكن "على القُطعة" و"القَطعة". إلّا أنّ المستغرب تبرّع بعضهم - وخصوصاً من المسيحيين - بالمزايدة في التمسك بـ"اتفاق الطائف" في وجه إعادة النظر بالنظام، وهذا ما يعكس خلطاً "غريباً عجيباً" في المفاهيم:
* أولاً، "الطائف" ليس اتفاقاً مُنزلاً لا بل ككلّ اتفاق بحاجة إلى إعادة النّظر فيه مع مرور الوقت. يتحجّجون بأنّ "الطائف" لم يطبّق ويجب إعطاؤه الفرصة، ولكن ما كان مطروحاً قبل 35 عاماً، ألا يزال صالحاً اليوم؟ ألا يجب الأخذ في الاعتبار المتغيرات التي فرضت نفسها وحالت في الأساس دون تطبيق "الطائف"؟
* ثانياً، من قال إنّ إعادة النظر في النظام تعني التخلي عن روح "الطائف". فهذه الأخيرة ترتكز على نهائية لبنان كوطن حر مسـتقل لجمیع أبنائه، وعلى أنّه "عربي الهویة والانتماء"، وعلى احترام الحریات العامة - وفي طلیعتها حریة الرأي والمعتقد - وعلى العدالة الاجتماعیة والمساواة في الحقوق والواجبات بین جمیع المواطنین من دون تمایز أو تفضیل. فهل النظام المعمول به يصون هذه المرتكزات كلها؟
* ثالثاً، يتحدث "الطائف" عن "نظام قائم على مبدأ الفصل بین السلطات وتوازنها وتعاونها" و"نظام اقتصادي حر یكفل المبادرة الفردیة والملكیة الخاصة" وعلى "الإنماء المتوازن للمناطق"، فهل وفّر النظام المعمول به ذلك؟
* رابعاً، يؤكّد "الطائف" أن "لا تجزئة ولا تقسیم ولا توطین"، ويسارع المزايدون إلى الهجوم على الطرح "الفدرالي" على أنّه تقسيم وانقلاب على "الطائف". ففي أي قاموس سياسي يقرأون؟ كيف لـ"نظام اتحادي" أن يكون تقسيمياً؟ هل "الإمارات العربية" أو "الولايات المتحدة" أو كندا أو بلجيكا أو سويسرا مقسّمة؟ سذاجة أم تضليل؟
قبل ألفي عام، كان الفرّيسيّون يعتبرون أنفسهم قيّمين على الشـّريعة، وعلى أحكامها، وعلى كلّ ما يرتبط بها. فقال لهم السيد المسيح: "السَّبت إنّما جُعِلَ لأَجْل الإِنسان، لا الإِنسان لأَجْلِ السّبت". (مر 2: 27). هذا ينطبق على هؤلاء المزايدين "فرّيسي الطائف"، فهذا الاتفاق وضع لأجل اللبناني لا اللبناني لأجل "الطائف".
أهل الطائف خرجوا من القوقعة داخل نظامهم. وها هم يقومون بثورة إصلاحية بقيادة ولي العهد سمو الأمير محمد بن سلمان لمواكبة حاجات المواطن السعودي ومستقبل المملكة وازدهارها المأمول.
بالأمس، سارع "فرّيسيو الطائف" إلى الهجوم على اللقاء الذي استضافته معراب في 27/4/2024 بعنوان "القرار 1701 دفاعاً عن لبنان" غامزين من باب الدعوة للالتفاف حول "الطائف"، كأنّ لقاء معراب أو القرار 1701 هو انتقاص من "الطائف أو انقضاض عليه. إلّا أنّ الرّد جاء سريعاً عليهم وعلى الذين يتفنّنون في ضرب روح "الطائف" والترويج أنّ السعودية تخلّت عن لبنان أو لا تهتم بإحكام قبضة إيران عليه من خلال إيصال "حزب الله" مرشّحه الى رئاسة الجمهورية عبر زيارة سفير المملكة وليد بخاري معراب مقدّماً إلى رئيس "القوات" عباءة سعودية مطرّزة عربون محبة وتقدير، مع ما تعنيه هذه الخطوة وفق ديبلوماسية المملكة.
أهل الطائف خرجوا من القوقعة داخل نظامهم. وها هم يقومون بثورة إصلاحية بقيادة ولي العهد سمو الأمير محمد بن سلمان لمواكبة حاجات المواطن السعودي ومستقبل المملكة وازدهارها المأمول. لذا فإنّ المطلوب التمسّك بروح "الطائف" لا بآلياته أو بالنظام الذي قام بعده. فليتعظ "فرّيسيو الطائف" من قول بولس الرسول إلى أهل كورنثوس: "الذي جعلنا كُفَاة لأن نكون خدَّام عهد جديد. لا الحرف بَل الرُّوح. لأنَّ الحرف يقتل ولكنَّ الرّوحَ يُحْيِي". (2 كورنثوس 6:3).