أقرّ الاتّحاد الأوروبي حزمة مليار دولار أميركي للبنان على مدى أربع سنوات (2024-2027) بمُعدّل 250 مليونًا سنويًا. تأتي هذه المساعدات بعد تصاعد الرأي العام اللبناني الشامل ضد النزوح السوري الذي تخطّى، بحسب التقديرات، المليوني شخص. وأكّد رئيس حكومة تصريف الأعمال اللبنانية نجيب ميقاتي في تصريح تلفزيوني أنّ "حزمة المليار دولار التي أقرّت للبنان من الاتحاد الأوروبي غير مشروطة. وأنّ كلّ مقيم سوري غير شرعي سيرحّل من البلاد"، وأنّ هذه الحزمة " هي للبنان واللبنانيين وتشمل القطاعات الصحّية والتربوية والحماية الاجتماعية والعائلات الأكثر فقراً، إضافة الى مساعدات للجيش والقوى الأمنية من أمن عام وقوى أمن داخلي لضبط الحدود البرية، فضلًا عن زيادة العديد والعتاد". موضحًا أنّه "ليست هناك رشوة، كما يزعم البعض، وليست مساعدة المليار شرطًا لبقاء النازحين في لبنان".

ويصرّ الرّأي العام اللبناني على اعتبار أنّ الهبة الأوروبية هي بمنزلة "رشوة" لبيروت بغية إبقاء النازحين السوريين في لبنان وعدم السماح لهم بالذهاب إلى أوروبا عبر البحر. وما يدعم هذا الرأي: أولًا وجود الرئيس القبرصي في لقاء السراي الذي ضمّ إليه رئيسة الاتحاد الأوروبي ورئيس الحكومة اللبنانية، لأنّ قبرص هي في طليعة المتضررين من الهجرة السورية من لبنان إلى أوروبا. وسبق أن رفعت قبرص الصوت على هذا الصعيد. وثانيًا فتح باب الهجرة الموسمية للبنانيين الراغبين في العمل في أوروبا في مجالي الزراعة والسياحة وغيرهما.

بحسب تصريح رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، الخميس، في السراي الحكومي، فإنّ الاتحاد الأوروبي عرض على لبنان حزمة مالية بقيمة مليار يورو (بالتحديد 1.07 مليار دولار أميركي) لدعم الاقتصاد اللبناني المُتعثر وقوات الأمن اللبنانية (جيش وقوى أمن)، ودعم الخدمات الأساسية، ومنها الصحة والتعليم. وأضافت فون در لاين أنّه من المهم بالنسبة إلى بيروت أن "تمضي قدمًا في الإصلاحات الاقتصادية والمالية والمصرفية" لإعادة إحياء بيئة الأعمال والقطاع المصرفي.

وإذا ما سلّمنا جدلًا أنّ هذه المساعدة ليست برشوة، فكيف يُمكن الاقتصاد اللبناني أن يستفيد منها؟ التحليل المنطقي لإمكان استخدام هذه الأموال في الاقتصاد، يُشير إلى الكثيرٍ من الأسئلة التي لا يمتلك أجوبة عنها سوى المعنيين:

أولًا – حجم المساعدة هو مليار دولار أميركي موزّعة على أربع سنوات. وهو ما يعني 250 مليون دولار أميركي سنويًا، أو 21 ألف دولار أميركي شهريًا. في المقابل تبلغ حاجات الحكومة اللبنانية الشهرية ما يفوق مئتي مليون دولار أميركي شهريًا، والاستيراد الشهري يفوق المليار دولار. وبالتالي، يتبيّن أنّ هذه المساعدة هي نقطة في بحر الإنفاق التشغيلي سواء كان للحكومة أو للشعب. أيضًا هناك طريقة أخرى لمعرفة مدى هزال حجم هذه المساعدة، إذ يكفي معرفة أنّه إذا وُزّعت على الشعب، فستكون حصة كلّ مُقيم على الأراضي اللبنانية 0.09 دولار في اليوم.

ثانيًا – إذا ما اعتبرنا أنّ هذه الأموال ستذهب إلى دعم الاقتصاد وقوى الأمن والخدمات الأساسية، كما ذكرت رئيسة الإتحاد الأوروبي، فهناك أسئلة جوهرية عن كيفية المُساعدة. ماذا يعني دعم الاقتصاد؟ هل هو دعم للاستثمارات (مثلًا إعادة إعمار مرفأ بيروت) أم دعم للاستهلاك (مثلًا المساهمة في شراء القمح أو الفيول)؟ وما هي الآلية التي ستُتبع في كِلتا الحالتين؟ في الواقع، لا المبلغ كافٍ للدعم ولا الآلية واضحة مع وجود فساد بحجم الفساد في لبنان.

ثالثًا – كيف يُمكن دعم الخدمات العامة في لبنان ليستفيد منها اللبناني فقط، كما صرّح بذلك رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، من دون أن يستفيد منها النازح السوري سواء في قطاع التعليم أو في القطاع الصحي أو في غيرهما من القطاعات الأخرى؟

رابعًا – هل المساعدة المُقدّمة إلى الجيش والقوى الأمنية (مُقدّرة بـ 264 مليون دولار أميركي) تتضمّن الإنفاق التشغيلي أم إقامة أبراج مراقبة على الحدود؟ وهل يقبل العدو الإسرائيلي بوضع أبراج على الحدود الجنوبية؟

خامسًا – كيف ستتمكّن المفوضية الأوروبية من مراقبة الإنفاق في لبنان في ظل الفساد المُستشري؟ وإذا اكتشفت أنّ هناك مُخالفات، فهل تُوقف المُساعدة للبنان؟

سادسًا – لماذا هذا التزامن بين فتح باب الهجرة الموسمية للبنانيين بهدف العمل في أوروبا والتصعيد اللبناني الحالي ضد النازحين السوريين؟

سابعًا – ألم تُخالف أوروبا مبادئها التي تنص على عدم مساعدة لبنان إلّا بعد إجراء الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة من قبل صندوق النقد الدولي، والتي نتمّ ترجمتها بتوقيع اتفاق بينه وبين الحكومة اللبنانية؟

ثامنًا – هل صحيح ما تتداوله بعض وسائل الإعلام بشأن استخدام سلاح العقوبات للضغط على المسؤولين من أجل القبول بهذه الهبة مُقابل إبقاء النازحين في لبنان؟

تاسعًا – هل لعدم إدراج لبنان على اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي الدولية علاقة بالهبة الأوروبية وبملف النازحين السوريين؟

عاشرًا – أكثر من ذلك، افتراضًا أن لبنان استطاع الاستفادة من المليار دولار أميركي واستخدمها في المكان المناسب وأنعشت الاقتصاد، تبقى الخسائر الناتجة من النزوح السوري أكبر بكثير من الفوائد التي ستأتي من المليار دولار أميركي هبة من الاتّحاد الأوروبي. فالكلفة المباشرة على خزينة الدولة لا تقلّ في أحسن الأحوال عن 1.72 مليار دولار أميركي سنويًا، أمّا الكلفة غير المباشرة فلا تقلّ في أيّ حالٍ من الأحوال عن بضعة مليارات سنويًا بما يرفع كلفة النزوح إلى أكثر من 50 مليار دولار أميركي منذ العام 2011.

في الواقع، غياب صورة واضحة عن تقسيم المُساعدات بين القطاعات الاقتصادية المُختلفة، وعدم معرفة طابعها الاستثماري أو الاستهلاكي، وغياب آلية واضحة للإنفاق، وضعف حجم المُساعدة، هذه كلّها عوامل تُشير إلى أن فرضية "إسكات لبنان عن ملف النازحين مُقابل الهبة"، هو أمرٌ مُرجّحٌ!

من هذا المُنطلق، تتوجّه الأنظار نحو مجلس الوزراء الذي يتعيّن عليه الموافقة على الهبة قبل تلقّيها والبدء بصرفها من قبل الحكومة. ومع التصريحات التي سمعناها يمينًا وشمالًا، يظهر أنّ مجلس الوزراء ذاهب إلى رفض هذه الهبة، اللهم إلّا إذا كانت المواقف خارج الجلسة تختلف عن المواقف داخلها. وفي انتظار ما ستؤول إليه جلسة مجلس الوزراء المقبلة، يزداد الضغط يوميًا على لبنان من الباب الاقتصادي حيث يزداد التضخّم يومًا بعد يوم بالدولار الأميركي الذي أصبحت قيمته الشرائية تساوي 60% مما كانت عليه قبل الأزمة في ما يتعلّق بالاستهلاك، وهذا إن دلّ على شيء فإنّه يدلّ على انحراف البلد نحو الفوضى.

الأيام الآتية على لبنان صعبة جدًا. حمى الله لبنان من كلّ شرِ!