يحقُّ لي، ما دمت من أهل القلم، أن أُعْمِلَ قلمي في الشأن السياسي، من منطلق ثقافي بحت.

تصوَّرتُني الفراغ الرئاسي، أو الشُّغور، وقد حكم سعيدًا، منذ العام 1943، عام الاستقلال، إلى اليوم، مدة تفوق الولاية الكاملة لأيِّ رئيس جمهورية، وإن متقطعة. وخلتني، بلسانه، أعدُّ خطاب قسم، ينطبق على فحواه مثل "شرُّ البلية ما يضحك".

"أحلف بالله العظيم أني أحترم دستور الأمة اللبنانية وقوانينها وأحفظ استقلال الوطن اللبناني وسلامة أراضيه".

أيها اللبنانيون،

أيتها اللبنانيات (على أساس أن صاحب الفخامة جنتلمان يقدر الجنس اللطيف)،

أما وقد أدَّيتُ اليمين الدستورية، متعهدًا كل حرف ورد في القسم، ولو على قطع رأسي، أتلو على مسامعكم خطاب القسم.

أشكر لكم محبتكم لي، أأيدتموني أم عارضتم، لأنني للمرة الخامسة أحظى بشرف قيادة البلاد، بفضل دستورنا الهجين وسياسات مسؤوليكم التي "تفوِّتكم بالحيط"، فأتربع أنا على كرسي الرئاسة... تحيا الحيطان، يحيا لبنان (تصفيق حاد).

ودمتم لرئيسكم الذي يحبكم... فارغ يحكي، وعاقل مفترض يفهم...

تذكرون، يا أبنائي الأعزاء، أنني حكمت "كم يوم" بعد استقالة الرئيس بشارة الخوري، ولو ألَّف سنتذاك (1952) حكومة انتقالية برئاسة اللواء فؤاد شهاب، وأنني خلفت، عام 1988، الرئيس أمين الجميل الذي فوض إلى حكومة انتقالية برئاسة العماد ميشال عون وعضوية أعضاء المجلس العسكري آنذاك، أمر البلاد والعباد، ولكن سرعان ما واجهتها حكومة أخرى، فانسللتُ بين الحكومتين وطاب لي رغد السلطة وقماشة الكرسي الأول وخشبه المحفور، كأنه خلق لي حفرًا وتنزيلًا (صفير، تصفيق، بيس بيس بيس).

وكانت المرة الثالثة، أيها القوم، غداة انتهاء عهد الرئيس إميل لحود الممدد نصف ولاية، عام 2007. أشهرٌ لم أُعِرْ خلالها رئيس الحكومة آنذاك أي اعتبار. وحكمتُ بيد من حديد، وخرَّبتُ الدنيا، وأقمتها حتى رضختُ لتسوية الدوحة فأقعدتها، وحِدتُ من الدرب فاسحًا في المجال أمام الرئيس ميشال سليمان... تركته يحكم ست سنوات، وعيني على مقعده، أنقضُّ عليه حين يفرغ. وهكذا كان، كأنني أصبته بالعين، وقد بتُّ خبيرًا بها، لا صبَّة رصاص تفكُّها ولا منجم مغربي... (هتاف: بالروح بالدم نفديك يا فراغ).

ثم كانت المرة الرابعة، وفخامتي سيد القصر والبلاد والعباد. أي شرف نلته، دون رؤساء لبنان جميعًا منذ العام 1926، أن يتيح لي شعبي تولي السلطة أربعًا، متحديًّا الدستور والقوانين والمهل والمناشدات وإرادات السياسيين. فظيع أنا، ورهيب، ويبدو أن برنامجي السياسي الذي لم يتغير منذ قيام لبنان، هو ما يصلح لهذه البلاد المضروب على قلب حكامها وشعبها، لأنهم لم يعرفوا يومًا أن يجدوا لخلاصهم سبيلًا. (فـ راغ، فـ راغ، فـ راغ)...

وزد يا صاح مرة خامسة، منذ 31 تشرين الأول 2022، وانتهاء ولاية الرئيس العماد ميشال عون، تراني فيها متحكمًا برقاب شعبي، غير آبه بأشخاص مهما علا شأنهم، أو بمؤسسات وإدارات رسمية أو بأحزاب، سواء تلك الشعبية أو تلك المؤلفة من رئيس على نفسه، أو بمراكز قوى، ما دام كثر منهم، مسرورين بي، وما دام ملئي صعبًا عليهم جميعًا.

وها أنا اليوم أستعير من الرئيس الياس سركيس شعاره الشهير: "أنا منكم، أنا لكم، أنا معكم"، لأطبقه بحرفيته، "هيك هيك" ملقّ البلد فلتان، ولا أحد أحسن من أحد، ويسواني ما يسوى غيري. (روح يا كبير... تصفيق).

أيها اللبنانيون واللبنانيات،

يبدو أن محبتنا متبادلة. هكذا أثبتت الأيام والوقائع والأحداث. تتخلون عني، ثم لا تلبثون تعودون إلي، مشتاقين، ملهوفين، قدر اشتياقي ولهفتي إليكم، لأنكم تعرفون أن سياساتكم خلقتني وكسرت القالب، ولأني أعرف أن تغاضيكم عن حلٍّ جذري لنظامكم ودستوركم، حتى الآن، سيجعلني أملك سعيدًا مرات ومرات بعد، لا خمسًا فقط. (هتاف من وحي اللحظة: بدنا نشغِّل هـ الدماغ، ت ما يحكمنا الفراغ).

إني أعاهدكم، ما دمتم على هذه الحال، أن أبقى أُطلُّ على كرسيكم الأول من وقت إلى آخر، أحكمكم، أتسلى بكم، ترددون اسمي صبحَ مساء، تخافون مني، أهوِّل عليكم، تلوكني الألسن في المنطقة والعالم، وتُفرد لي الصفحات والشاشات والهواء والمواقع الإلكترونية (حلوة التكنولوجيا)، ويتناولني المحللون، ولا سيما الاستراتيجي منهم، إلا إذا وضعتم عقولكم في رؤوسكم، واجتمعتم على نظام لا يتعطل، وعلى دستور واضح، وعلى قانون انتخاب يصحح التمثيل، وعلى إيمان بأن لبنان لا يحكم بالإقصاء والإلغاء، بل بالشركة والتوافق... فهلَّا اعتبرتم؟

ودمتم لرئيسكم الذي يحبكم... فارغ يحكي، وعاقل مفترض يفهم... وإلَّا صح توقع لنيتشه، من العام 1886، فيكم وفي غيركم من بني البشر: "إن المثالية الإنسانية كلَّها على وشك التحول نحو العدمية، نحو الإيمان بعدم الجدوى والخُواء المطلق، نحو تحطيم المثل، والفراغ الفكري والروحي الجديد، الفنون الجديدة لإدامة الوجود، وجودنا نحن البرمائيين"...

عشت أنا،

دام الكرسيُّ لي،

شكرًا لك نيتشه!!!