صدى الهتافات بـ"فلسطين حرة" لم يكن، هذه المرة، من جامعات بيروت أو القاهرة أو بغداد، ولم يكن باللغة العربية. "فري بالستاين" كلمات تعلو في فضاء جامعة كولومبيا في نيويورك، وكشرارة حملتها رياح التغيير إلى جورج تاون وجورج واشنطن في العاصمة الأميركية، ومنها إلى جامعة تكساس في أوستن فجامعة إيمرسون في بوسطن وغيرهما من الجامعات الكبرى في المدن الأميركية المختلفة. إنها دماء أطفال غزة الذين قتلتهم آلة الحرب الإسرائيلية تدفع بجيل المستقبل الأميركي إلى رفع الصوت عالياً "ليس باسمنا... ولا بأموال ضرائبنا".
حين تصبح قضية فلسطين سبباً لقمع القوى الأمنية للمتظاهرين العُزّل وخنق أصواتهم ومنعهم من التعبير بحرية والتعامل معهم بخشونة، واعتقال بعض الطلاب والأساتذة الجامعيين، تظهر أميركا كأنّها تتنكّر لتمثال الحرية، وتنسف تاريخاً عملت فيه على تصوير نفسها زعيمة العالم الحر. ولم يعد ينقص سوى بيانات استنكار وتنديد بما تقوم به الولايات المتحدة الأميركية تصدر عن بعض الدول التي كانت واشنطن تندد بممارساتها بحق المتظاهرين وقمعهم.
بالأمس، انتصرت قضية فلسطين التي تعرضت لأقوى محاولات الطمس والتضليل، بتواطؤ مخيف بين إعلام يدّعي الحرية وسلطات تدعم الاحتلال وتبرّر القتل وتمنع تنفيذ القرارات الصادرة عن مجلس الأمن والأمم المتحدة، وتغطّي كلّ الانتهاكات التي ترتكبها إسرائيل منذ قيامها حتى اليوم بحقّ المدنيين الفلسطينيين العُزّل. بالأمس، رفع الشاب الأميركي صوته بوجه إدارته في رواية تناقض كل ما جهدت من أجله آلة الدعاية الغربية المتنكّرة بقناع الحرّية.
ظهرت تهمة معاداة السامية على حقيقتها لمن كان يجهلها. تهمة جاهزة لا تختلف بشيء عن تهمة معاداة النظام أو الخيانة والتآمر مع الخارج، وهي من التهم الجاهزة التي تعتمدها الأنظمة القمعية لخنق المعارضين. ومرة جديدة يظهر بعض الإعلام الغربي مرتبكاً هزيلاً بين ما كان يدّعيه من صورة كمنارة حرية وبين حقيقته كذراع لمصالح وحسابات متصلة بالسلطات السياسية وغيرها من السلطات. لافتة ومعبرة كانت تلك الشهادات لمفكّرين وكتّاب أميركيين تنتقد الصهيونية بشكل مباشر، بعدما اعتاد العالم أنّ العرب وحدهم يتحدثون عن الصهاينة وخطرهم وضررهم وهو ما كان يتم تصويره معاداة لليهود في محاولة لتجييش الرأي العام وتصوير الصهاينة ضحية.
ثبت أنّ الردّ الإيراني على إسرائيل لم يحجب قضية غزّة، ولم يؤثر في تضامن العالم مع الإنسان الفلسطيني، مع الطفل والعجوز، مع الأم والأب والجد والجدة. لم تنجح آلة الدعاية في صرف الأنظار عن الوجهة الأهم، الدماء الفلسطينية، وإن تعمّد الإعلام الغربي ومنصّات التواصل الاجتماعي حجب صورها وقصصها، تحت عناوين كاذبة بان زيفها عندما كان الأمر يتعلق بأوكرانيا وما يحصل فيها. إذ تجنّد الإعلام والمنصات على اختلافها لنقل الرواية الغربية للأحداث بالتزامن مع حجب الرواية المضادة ومنعها من الوصول والانتشار.
وتبيّن أنّ الإشغال لآلة الحرب الإسرائيلية وتهجير المستوطنين عند الحدود الجنوبية اللبنانية، لم يحولا دون متابعة الشباب الأميركي للمجازر الإسرائيلية بحق الأطفال والنساء ولا التدمير الذي ألحقه "جيش الدفاع" في المستشفيات والمدارس ودور العبادة ومخيمات النزوح.
بغض النظر عن المسمّيات، يكتسب التوقيت أهمية بالغة عشية معركة الانتخابات الرئاسية الأميركية
حين انطلقت الحرب الإسرائيلية على غزّة رداً على طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول من العام الماضي، بدا كأنّ شيئاً ما تغيّر، تأكّد للكثيرين أنّ الرواية الغربية للأحداث لم يعد بإمكانها السيطرة طويلاً على العقول. جيل جديد لم يعد يثق بالروايات الرسمية للأحداث. شباب يصنع وعيه الخاص بقدراته الخاصة. عقول نشطة لا تنطبق عليها المعايير القديمة أو التصنيفات المتوارثة، تؤمن بالبيئة النظيفة بمواجهة شركات النفط العملاقة، تؤمن بحق الشعوب بالحرية وبالعيش بسلام في مواجهة مصانع الأسلحة وتجارها. شابّات وشبّان يؤمنون بشعارات المساواة التي يرفعونها ولا يحتكرونها في ما بينهم على أساس الهوية أو الدين أو العرق والجنس.
الأهمّ في ما يحصل اليوم في بعض الجامعات الأميركية والأوروبية بعد المسيرات والتظاهرات الحاشدة التي ردّد المشاركون فيها أغنية "فيفا بالستينا"، يكمن في أنّ القضية الفلسطينية أصبحت في الحرم الجامعي، في قاعات المحاضرات والمناظرات، أصبحت تهمة توجّه إلى جيل المستقبل المؤمن بالحرية، بعدما وصلت إلى مستوى الحرب الثقافية، وهو مستوى متقدم على الحرب العسكرية.
هل هو "الربيع الأميركي"؟ تبدو تسمية معبرّة لما يحصل بعدما كانت الإدارات الأميركية المتعاقبة في طليعة من رحّب بـ"الربيع العربي" ودعمه وروّج له. ربما تكفي تسميته بـ"الحراك الجامعي". ولكن، بغض النظر عن المسمّيات، يكتسب التوقيت أهمية بالغة عشية معركة الانتخابات الرئاسية الأميركية، التي يبدو أن ما يحصل في غزة سيكون واحداً من عوامل التأثير في نتائجها.
أيا كان ما سيحصل غداً، أو بعد غد، أو خلال الأسابيع والأشهر المقبلة، في ما يتعلق بالحراك الجامعي الأميركي، يبقى الأكيد أن التغيير حاصل والمستقبل لفلسطين.