لم تهتمّ النظرية الاقتصادية في كثير من الأحيان بالطرق الملموسة لتنفيذ السياسات الاقتصادية، بحكم أنّ هذه الأخيرة تتبع نصائح النظرية الاقتصادية مع ما يواكب ذلك من تأخير وأوجه قصور في التنفيذ. وخلال قرون، كان تركيز خبراء الاقتصاد على السياسة المثالية الواجب القيام بها على حساب السياسة الفعلية المُمكن تنفيذها. وفي خطاب شهير خلال تسلّمه جائزة نوبل في العام 1970، قال "Frish": "ليست مهمّتنا كاقتصاديين قياسيين ومهندسين اجتماعيين الخوض في مناقشة مفصّلة للنظام السياسي". وعليه، كانت دراسة السياسات الاقتصادية تجري بطرق معيارية يتمّ على أساسها تصنيف الحكومة كمُخطّط واعٍ، نيّاته حسنة تجاه الشعب، هذا يعني أنّ الحكومة تسعى دائمًا إلى اختيار السياسة الأكثر فعالية وتنفيذها (Pigou 1920).
آراء آدم سميث تُفسّر دور الحكومة كدور "مُتبقٍّ" أي تتدخل لمعالجة فشل الأسواق (Market Failure). وينصّ مبدأ "تفريع السلطة" على أنّ الحكومة تتدخّل فقط عندما تفشل المبادرة الفردية حيث أنّ الأفضلية هي للعمل الفردي الذي يُمكنه تحقيق الأهداف المرغوب فيها بشكل أفضل. ويُعطي آدم سميث الدولة دور القيام بالمهمّات التي لا يستطيع القطاع الخاص القيام بها، وهي مقسومة قسمين: الحفاظ على الأمن (دفاع، جيش، عدالة، تعليم)، وإنتاج عدد مُعيّن من السلع والخدمات الاقتصادية (مثال البنى التحتية).
آراء آدم سميث تُفسّر دور الحكومة كدور "مُتبقٍّ" أي تتدخل لمعالجة فشل الأسواق
يشمل الاقتصاد الكلاسيكي الجديد عدّة مدارس فكرية مختلفة، لكنها تتشارك في معتقدات أساسية تميّزها كاقتصاد كلاسيكي جديد. ويعتبر الاقتصاد الكلاسيكي الجديد "التقليدي" أنّ الاقتصاد الكلّي يصحّح نفسه بشكل طبيعي، وبالتالي يدعم التدخل الحكومي بحدّه الأدنى. أمّا اقتصاد «جانب العرض» (Supply-Side Economics) فينصّ على أنّ التدخّل الحكومي من خلال التعديلات النقدية أو المالية (fine-tuning)، هو "مُتهوّر" وغير فعّال. وأمّا الاقتصاديون الكلاسيكيون الجدد فيدعون إلى تحفيز العرض الكلّي والنمو الاقتصادي من خلال ضرائب منخفضة مقرونة بإنفاق حكومي مُقيّد. وبشكل عام، يفضل الكلاسيكيون الجُدد نهجًا أكثر استقرارًا للسياسة النقدية مقارنة بالكينزيّين.
الفكر الكينزيّ يأخذ منابعه من الأحداث التاريخية (أزمة 1929 وأزمة 2008) للتأكيد أنّ الاقتصاد يُمكن أن يصل إلى حالة توازن عند مستوى ناتج محلّي إجمالي يقلّ عن إمكاناته (potential GDP)، مما يؤدّي إلى ما يعرف بـ "فجوة الناتج المحلي الإجمالي" (Gap). هذه الفجوة تُفسّر بأنّ الاقتصاد لا يعمل بكامل طاقته وقد تظهر على شكل انكماش اقتصادي أو ارتفاع تضخّمي. ويؤكّد الكينزيّون أنّه حتّى لو كان الاقتصاد يتمّتع بقوة تصحيحية ذاتية، إلّا أنّ هذه القوّة قد تكون بطيئة مما يؤدي إلى فترات طويلة من ناتج محلّي إجمالي دون مستواه الكامن، بالإضافة إلى توظيف غير مكتمل. وبالتالي، يرى الكينزيون أنّ على الحكومة أن تتمتّع بدور نشط في إدارة اللعبة الاقتصادية وتحفيز النشاط الاقتصادي خلال فترات الانكماش ولجم النمو خلال فترات الإزدهار (تفاديًا للضغوط التضخّمية)، من خلال مزيج من السياسات المالية والنقدية.
أمّا كارل ماركس فيرى دور الحكومة مسهِّلًا للانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية والشيوعية حيث تعمل الحكومة كأداة في خدمة الطبقة العاملة وتستخدم سلطتها ومواردها لإعادة توزيع الثروة وتعزيز العدالة.
في الوقت الحاضر، تنصّ الأعراف الحالية والمُمارسات الفضلى (Best Practices) على أنّ الأهداف الاقتصادية الرئيسية للحكومات تشمل ثلاث مهمات رئيسية:
- ضمان التوازن الداخلي، وذلك من خلال ضمان التوظيف الكامل والحفاظ على استقرار الأسعار.
- ضمان التوازن الخارجي من خلال الحفاظ على حساب جارٍ يتجنّب العجز الكبير أو الفائض الكبير.
- إيجاد سعر صرف مناسب يتلاءم والمهمّتين المذكورتين آنفًا من خلال السياسات النقدية والضريبية (Managing monetary and exchange rate interdependencies between nations).
أين لبنان من كلّ هذا؟ بعض الأمثلة الصارخة
فشلت الحكومات اللبنانية المُتعاقبة في وضع سياسات اقتصادية تأخذ الاقتصاد اللبناني إلى برّ الأمان. وفي قراءة تاريخية للنمو الذي حقّقه لبنان خلال أعوام المجد بين 2007 و 2010، نرى أنّ هذا النمو لم يكن نتاج سياسات اقتصادية للحكومات بل هو نتيجة عوامل سياسية واقتصادية خارجية أدّت إلى تدفّق هائل لرؤوس الأموال.
الأمثلة على الفشل الحكومي كثيرة. في ما يلي أبرزها:
فشلت الحكومات المُتعاقبة في دفع الاقتصاد اللبناني إلى مستويات مستدامة وهو ما يُمكن رؤيته من خلال مقارنة السياسات الاقتصادية الأميركية بنظيراتها اللبنانية.
ويُظهر الرسم البياني الأول كيف أنّ السياسات الاقتصادية الأميركية أمّنت مسارًا تصاعديًا للاقتصاد الأميركي من خلال زيادة النمو الاقتصادي وزيادة إنتاجية العامل الأميركي بغضّ النظر عن التطورات السياسية، وعمن يحكم في البيت الأبيض. أما في حالة لبنان فنرى الفوضى القائمة بعدما كانت إنتاجية العامل اللبناني هي الأعلى في العام 1987. أمّا إنتاجيته اليوم فهي أقلّ من إنتاجية العامل الأميركي في العام 1970! وهذا أكبر دليل على فشل السياسات الاقتصادية اللبنانية.
المثال الصارخ الثاني على فشل السياسات الاقتصادية اللبنانية يكمن في الدين العام الذي تراكم عبر السنين من عجز الموازنات وذلك بمُعدّل 3.1 مليار دولار أميركي سنويًا منذ العام 1993 إلى العام 2019. الرسم البياني الثاني يُظهر أنّ كلّ العهود الرئاسية والحكومات المُتعاقبة عملت بالطريقة نفسها وراكمت الدين العام بشكل ثابت وبخُطًى أكيدة إلى حين حلّت كارثة التوقف عن الدين العام. إلّا أنّ الأخطر في كلّ ذلك هو أنّ الحكومات موّلت هذا الدين من خلال قروض من المصارف ومصرف لبنان بنسبة 85% (كلّها من أموال المودعين) ومن خلال تسهيلات قدّمها المصرف المركزي للحكومات. وبذلك نافست الحكومات المتعاقبة القطاع الخاص على التمويل من القطاع المصرفي.
المثال الصارخ الثالث يتمثّل في الميزان التجاري الذي يُسجّل عجزًا هيكليًا من الصعب التخلّص منه بدون إصلاحات اقتصادية كبيرة. ويلفت مؤشّر الميزان التجاري إلى صحة اقتصاد البلد وموقعه في الاقتصاد العالمي. ففائض في الميزان التجاري يُشير إلى التنافسية في الأسواق الدولية، أو إلى وجود سلع مُصدّرة ذات قيمة، أو إلى قوة الاقتصاد المحلّي. وهذا ما يُمكن أن يؤمّن مصدرًا لاحتياطيات بالعملة الأجنبية والمساهمة في النمو الاقتصادي. أمّا عجز الميزان التجاري فيشير إلى الاعتماد على الواردات، أو إلى ضعف في الإنتاج المحلي، أو إلى مستويات عالية من الاستهلاك بالنسبة إلى القدرة الإنتاجية، وبالتالي يضع ضغطًا على عملة البلد ويؤدي إلى زيادة الاقتراض أو استنزاف الاحتياطات الأجنبية.
الرسم النموذجي الثالث يُظهر مدى رداءة الاقتصاد اللبناني على مرّ السنين إذ إنّ العجز المُزمن في الميزان التجاري على مدى عقود، يُشير إلى فشل السياسات الاقتصادية اللبنانية في بناء ماكينة اقتصادية تنافسية ويجعل من شبه المستحيل عودة الليرة اللبنانية إلى مستويات ما قبل الأزمة خصوصًا مع فقدان الاحتياطات من العملات الأجنبية واستهلاك الدولة أموال المودعين.
عمليًا، هذه الأمثلة هي تأكيد أنّه لا يُمكن الاستمرار في سياسة "سيري وعين الله ترعاكِ" لأنّ الفقر الذي ضرب الشعب منذ بداية الأزمة في العام 2019 إلى اليوم سيؤدّي إلى اضطرابات شعبية في أحسن الأحوال، أو إلى صراعات مُسلّحة في أسوئها، مرورًا بزيادة السطو المسلح والعنف الجسدي. من هذا المُنطلق، يتعيّن على السلطة السياسية ومن خلفها الأحزاب تعديل نهج الإدارة الاقتصادية والمالية للبلد إذا ما أرادت أن نخرج من النفق المُظلم الذي نعيش فيه.