هي "الضربة الأخيرة" التي أجّلت "الحرب الكبرى" المُحكى عنها والمُتخوف منها في المنطقة لثلاثة أشهر على الأقل، إذ لا أحد راغباً في خوضها، فما حصل من ردّ إيراني على إسرائيل وردّ إسرائيلي عليه جاء "مدوزناً" على يد الولايات المتحدة الأميركية بما يحفظ "ماء وجوه الجميع"، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدل على أنّ المصلحة والمنطق ما زالا يتحكّمان بتصرّفات الجميع.
إلّا أنّ المشكلة في الحالات المدوزنة كالتي جرت بين إيران وإسرائيل وما بينهما، هي أن "الدوزنة" قد تنجح في مراحل وتفشل في أخرى كما في حالات سابقة عالمياً، لكن ما جرى الآن يبدو "مدوزناً" وتحت السيطرة أميركياً سواء في غزّة أو على الجبهة الجنوبية اللبنانية، أو حتى على مستوى المواجهة الإيرانية ـ الإسرائيلية. فالأميركيون، حسب ديبلوماسيين خبراء في السياسة الأميركية، لا يريدون خوض حرب في المنطقة، وهم يدركون مبكراً وجيداً أنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وحلفاءه المتطرفين يريدون "دندلة" الولايات المتحدة الأميركية في حرب ضد إيران، وهم يعملون على هذه "الدندلة" منذ زمن طويل، أقلّه منذ أيام الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، نتيجة قلقهم وخوفهم التاريخي من البرنامج النووي الإيراني. ولذلك هناك عملية شدّ حبال متواصلة بين واشنطن وتل أبيب، فأوباما تحدّى نتنياهو وجماعته وأبرم الاتفاق النووي مع طهران، لكنّهم لاحقاً ضغطوا على خلفه دونالد ترامب وأجبروه على الخروج من هذا الاتفاق قبل أن يدرك الأخير سلبيات هذه الخطوة على مستقبله السياسي، إلى درجة أنّه كاد في الأيام الأخيرة من ولايته أن "يترجى" الإسرائيليين ليعود إلى ذلك الاتفاق، ولكنهم لم يمكّنوه من ذلك، فذهب الى الانتخابات وفشل في الفوز بولاية ثانية أمام الرئيس جو بايدن.
لذلك يقول الديبلوماسيون الخبراء في السياسة الأميركية أنّ "اللعبة" انتهت الآن إلى نتيجة "2 ـ 2 " وأطلق الحَكَم صافرته استعداداً لـ "الماتش" المقبل، إلّا أنّ أحداً لا يمكنه معرفة ما ستحمله الأشهر الثلاثة المقبلة. فقد عاد لبنان والمنطقة إلى ما كانا عليه قبل المواجهة الإيرانية ـ الإسرائيلية الأخيرة، التي انتهت "مدوزنة بعناية" بحيث أنّ الأميركيين والأوروبيين نجحوا في أن "يدوزنوها" ويحوّلوها حالة نجاح، فهم كانوا جرّبوا الدوزنة في حرب أوكرانيا، ولكنهم أخفقوا وفلتت الأمور من أيديهم ولم تتماثل تلك الحرب هناك إلى حلّ حتّى الآن.
"اللعبة" انتهت الآن إلى نتيجة "2 ـ 2 " وأطلق الحَكَم صافرته استعداداً لـ "الماتش" المقبل
وربما يكون ما حصل بين إيران واسرائيل "آخر جولة"، لكن استناداً إلى التجارب السابقة عالمياً يمكن اعتبار أنّه أجّل الحرب الكبرى مؤقّتاً، ففي أيام الحرب العالمية الثانية جرى كثير من عمليات "الدوزنة" وعلى أكثر من جبهة، ولكنّ زمام الأمور فلت في النهاية من أيدي المعنيين، ونشبت الحرب التي ذهب ضحيتها عشرات الملايين من البشر، فضلاً عن الدمار الرهيب في الاقتصادات العالمية. إلّا أنّ ما يميّز الحال الآن عما مضى هو أن لا مصلحة لأحد في الحرب، والمنطق يقول في هذه الحال إنّه لن تكون هناك حرب، حتى لو فلتت الأمور فإنّ المعنيين سيحاولون لجمها ما داموا لا يريدون الحرب لأنها إن اندلعت فستكون على أساس معادلة "يا قاتل يا مقتول". فإذا كان نتنياهو يريد جرّ الأميركيين إلى حرب ضد إيران فإنّ هناك اقتناعاً عامّاً وراسخاً في كل العهود الأميركية المتعاقبة من الأمس إلى اليوم مفاده أنّ الرئيس، أيّ رئيس، لا يمكنه البقاء على الكرسي إن خاض حرباً في الشرق الأوسط، وخصوصاً في هذه المرحلة. ولذلك فإنّ الأميركيين لا يريدون خوض حرب ضد إيران، أقلّه في المستقبل المنظور. علماً أنّهم أدركوا باكراً أنّ هجوم إسرائيل على القنصلية الإيرانية في دمشق كانت غايتها منه استدراج إيران إلى مواجهة كبرى معها، تدفع واشنطن تلقائياً إلى الانخراط فيها إلى جانب تل أبيب. لكن كانت نتيجة ما حصل أنّ الولايات المتحدة الأميركية لم تنخرط وذهبت الى خيار "دوزنة" ردّ إسرائيلي على إيران لا يتسبّب بحرب شاملة، ويبدو أنّ الردّ الإسرائيلي "المسخرة" في أصفهان كما سماه وزير الامن القومي بن غفير كان "مدوزناً" أميركياً فعلاً، بحيث أنّ إيران لم تعلن بعد أنّها ستردّ عليه، وصدر عنها ما معناه أنّه لم يثبت لديها أنّ إسرائيل هي من هاجمت أصفهان، الأمر الذي طرح تساؤلات كثيرة عن غاية القيادة الإيرانية من تجهيل الفاعل الذي بات معروفاً من الجميع، وهو إسرائيل نفسها. لكن كلّ هذا لا يلغي حقيقة أنّ هناك عملية شدّ حبال دائرة بين واشنطن وتل ابيب تبدأ من رفح ولا تنتهي في أصفهان، فربما تكون رفح التي تهدد إسرائيل باجتياحها في طور التعرّض لـ "اجتياح مدوزن" أميركياً في الوقت الذي سيحاول نتنياهو التصرف في الشارع الإسرائيلي على أنّه "القوي"، وأنّه قد تأهّل لإعادة افتتاح "نادي ملوك إسرائيل" الذي كان قد أقفل بمقتل إسحاق رابين.
على أنّ الأوروبيين والروس والإيرانيين وغيرهم لا يريدون الدخول في حرب، بل أنّهم يبذلون الجهود الكبيرة لتفاديها لأنّها إذا اندلعت فستكون "حرب وجود" وستدل إلى أنّ هناك شيئاً ما غير عادي ينتظر المنطقة والعالم، إلّا أنّه حتى الآن لا تغييرات مهمة حصلت ، فـ"الشرق الاوسط الجديد" الذي كانت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقةكوندوليزا رايس قد بشّرت به أيام حرب 2006 لم يتحقّق، وما يحصل هو نزاعات "مدوزنة"، أي مضبوطة ومرسومة الأهداف مسبقاً، ولم يحصل أيّ اختراق في أي اتجاه. فالإسرائيليون مضى عليهم أكثر من 70 عاماً وهم يبنون المستوطنات ولم يتمكّنوا بعدُ من تحقيق حلمهم بإقامة الدولة اليهودية الخالصة على أرض فلسطين التاريخية. وبعد عملية "الطوفان الأقصى" وفي ضوء ما يجري الآن صار موضوع زوال إسرائيل لأوّل مرة في تاريخها إمكانية، حتى لو كانت إمكانية ضعيفة. ففي حرب تشرين 1973 أنقذ الأميركيون والغرب إسرائيل بجسر جوي مدّها بكلّ أشكال الدعم العسكري بعدما بلغ بها الضعف والهزيمة حد التهديد باستعمال القنابل النووية خلال الأيام الاخيرة من تلك الحرب، إذ تحسست خطر السقوط والانهيار. وقد تمكن الإسرائيليون يومذاك من إقناع وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر بأن يرسل إليهم الدبابات محمولة بطائرات النقل العسكرية الأميركية. والآن يدور الحديث نفسه عن إمكان أن تكون إسرائيل على طريق الزوال، خصوصاً أنّ أحد وزرائها انبرى في الأيام الأولى لحرب غزة إلى التهديد باستخدام السلاح النووي، فما كان من الولايات المتحدة وحلفائها إلّا أن بادروا إلى اقامة جسر جوي لمدّها بكلّ أسباب القوة العسكرية... فما أشبه اليوم بالبارحة إسرائيلياً.
وعلى المتسائلين هل إسرائيل في حاجة أميركية وغربية في ضوء ما وصلت إليه من ضعف وما ترتكبه من مجازر، يردّ خبراء في الشأن الأميركي أنّ الولايات المتحدة الموجودة في المنطقة منذ الحرب العالمية الثانية لم تكن يوماً في حاجة عسكرية أو إستراتيجية لإسرائيل، فهي لديها 15 قاعدة عسكرية في البلاد العربية من سلطنة عمان إلى تركيا. ولذلك فإنّها تتعاطى مع إسرائيل لأسباب مختلفة وليس لأسباب إستراتيجية، وهي تتعاطى معها لأسباب انتخابية لوجود اللوبي اليهودي في البلاد الأميركية، حيث يسيطر اليهود على الإعلام وعلى المؤسسات المالية الأميركية والدولية وكذلك على كبريات الشركات الأميركية والعالمية، ما يعني أنّ على كلّ طامح للوصول إلى البيت الأبيض أو أي منصب رفيع في هرم السلطة الأميركية أن يأخذ دوماً في اعتباره "خطب ود" إسرائيل والالتزام بالدفاع عنها. ولذلك فإنّ الغالبية الساحقة من الساسة الأميركيين يرددون دوماً لازمة أنّ لإسرائيل حقّ الدفاع عن نفسها عند خوضها أيّ حرب منذ نشوئها عام 1948 إلى اليوم.