أربع سنوات ونصف السنة مرّت على بدء الأزمة في لبنان من دون أن تتخذ السلطة السياسية أيّ إجراء يذهب في اتجاه الخروج من هذا المصاب.
أربع سنوات ونصف السنة والدولة بحاجة إلى مداخيل لتأمين سير عمل مؤسساتها من دون أن يكون هناك أيّ إجراء يذهب في هذا الاتجاه.
أربع سنوات ونصف السنة وكلّ ما استطاعت السلطة القيام به هو زيادة الضرائب والرسوم على المواطنين في ظلّ ظروف اقتصادية كارثية، لتكون بذلك الدولة اللبنانية الدولة الأولى في العالم التي ترفع الضرائب والرسوم بهذه النسب تحت وطأة أزمة اقتصادية حادّة صنّفها البنك الدولي بأنّها من أكثر الأزمات قسوةً منذ مئة وخمسين عامًا.
وبدل أن تُعزّز الدولة إيراداتها من موارد غير مُستخدمة في الاقتصاد، كالأملاك البحرية والنهرية وغيرها، وبدل أن تفتح مؤسساتها بشكل كامل، وخصوصًا مصلحة تسجيل السيارات والدوائر العقارية التي كانت تُشكّل مدخولًا مُهمًا من مداخيل الخزينة قبل الأزمة، ها هي تُفضّل الضريبة على القيمة المُضافة (أسهل في التحصيل) والرسوم على المُعاملات.
حتى أنّ اقتصاد الكاش الذي يحرم خزينة الدولة من قسم كبير من المداخيل، لم تستطع السلطة مُحاربته، ولم يتمّ إقرار إجراء واحد للحدّ من هذا الاقتصاد الخطير. لا بل على العكس شجّعته من خلال بدئها بتحصيل الضرائب والفواتير على الخدمات العامة بالكاش.
لم تستطع السلطة تأمين موظّفين لتشغيل مرفق مثل مرفق النافعة أو الدوائر العقارية، أو أقلّه، توظيف أشخاص أكفّاء قادرين على تشغيل هذين المرفقين، مع العلم أنّ الحاجة إليهما كبيرة، وهناك الآلاف من المواطنين والشركات بانتظار عودة هذه الخدمات لإجراء معاملاتهم. فما هو السبب؟ هل هو غياب الكفاءات؟ بالطبع لا، هناك شيء آخر.
لم تتمكّن السلطة خلال أربع سنوات ونصف السنة من بدء الأزمة من حلّ مُشكلة الودائع في المصارف، وكلّ ما توصلت إليه هو شطب الدين العام ومعه هذه الودائع. مع العلم أنّ العديد من المودعين لا مورد لهم إلّا ما يملكونه في هذه المصارف.
وماذا نقول عن الكهرباء؟ فمع كلّ الأخذ والرد عن مشاريع استجرار للطاقة من الأردن والغاز من مصر لتشغيل المعامل الكهربائية، لا كهرباء اليوم إلّا لبضع ساعات في اليوم الواحد. فما السبب؟ هل هو سياسي كما يُقال؟ بالطبع لا ، هناك شيء آخر.
وماذا نقول عن بلد المتساقطات الغني بالمياه، وعلى الرغم من ذلك هناك مواطنون في عز الشتاء يطلبون صهاريح مياه لتلبية حاجاتهم. هل يُعقل أنّه في بلد المياه ليس هناك مياه في المنازل؟
عشرات مليارات الدولارات (من أموال المودعين) استُنزفت في دعم لم يستفد منه المواطن اللبناني، بل إنّ السلع المدعومة كانت متوفرة في بلاد العالم إلّا في لبنان. من كنشاسا إلى تركيا، ومن سوريا إلى أوستراليا مرورًا بالكويت، تنزل السلع والبضائع على الرفوف وعليها ختم "مدعوم من وزارة الإقتصاد والتجارة". إلى من ذهبت هذه الأموال؟ بالطبع ليس إلى المواطن اللبناني.
ثلاثة أعوام وثمانية أشهر على جريمة مرفأ بيروت، ولم يتمّ حتّى الساعة إعادة إعماره وبالطبع معرفة الفاعلين ومُحاسبتهم. هذا المرفأ الذي كان يمرّ عبره أكثر من 70% من واردات لبنان وصادراته قبل الأزمة، يعمل اليوم على بقايا ما تبقّى منه.
ثماني سنوات مرّت على إقرار موازنة العام 2016 التي طُلب فيها من الحكومة تقديم قطوعات حسابات الأعوام السابقة، وحتى اليوم لا قطوعات ولا من يحزنون.
هل هناك قطبة مخفية؟ كيف لنخبة سياسية أن لا تقوم بأيّ إجراء لتصحيح ولو أمر بسيط مثل وجود طوابع مالية للمواطن من أجل القيام بمعاملاته؟
فعلًا إنه غريبٌ وعجيبٌ أمر هذه الدولة!
كلّ إجراء يذهب باتجاه تصحيح الوضع (ولو كان بسيطًا جدًا) يصطدم دائمًا بعقبات سياسية، وطائفية، وحزبية، وخارجية... ولا نعرف السبب. وتتصرّف السلطة وكأنّ وزن لبنان السياسي والاقتصادي العالمي سيدفع الدول الأخرى إلى مساعدته. هذا الأمر غير صحيح. كلّ الدول تخلّت عن لبنان بما فيها الدول الخليجية وفرنسا والولايات المُتحدة الأميركية... كلّ ما تُريده الدول الكبرى من لبنان هو تصفية الخلافات مع العدو ومنع النازحين السوريين من الهجرة إلى الغرب.
مخطئ من يعتقد أنّ لبنان اليوم هو مستشفى الشرق، أو صرح للعلم، أو سويسرا الشرق، أو أنّ قطاعه الخدماتي ما زال مُعادلة صعبة على الصعيد الإقليمي. مخطئ من يعتقد أنّ لبنان هو ممرّ إلزامي للمشاريع الإقليمية، والدليل على ذلك طريق الهند – أوروبا، التي أصبحت، بسبب الوضع القائم، تمرّ بحيفا.
كلّ ما حصل ويحصل في لبنان هو نتاج أعمالنا. ألم يحن الوقت لتصحيح ولو بعض الأمور البسيطة التي تُخفّف عن كاهل المواطن اللبناني؟
إنّ البيان الصادر عن مصرف لبنان بخصوص ملاحقة سوء استعمال التجار للدولار المدعوم، هو أمر لافت ويطرح أكثر من سؤال: هل هذا الأمر هو بداية الاعتراف بضرورة البدء بالاصلاحات المطلوبة؟ كيف ستُستعمل الأموال بعد تحصيلها؟ وما هي الخطوة التالية عقب هذا البيان؟
في الواقع أنّ بدء الإصلاحات من هذا الملف هو أمر جيّد، فالكلّ يعلم الارتكابات التي تمّت على هذا الصعيد من دعم الكافيار والفياغرا وغيرهما من السلع المدعومة وصولًا إلى إيجادها في أسواق خارجية مرورًا بقبض ثمنها في المصارف الأجنبية. وبالتالي، هناك، بحسب تخمينات بسيطة، ما لا يقلّ عن ملياري دولار أميركي يُمكن استعادتهما ووضعهما في الأسواق لإنعاش الاقتصاد الرسمي (وليس اقتصاد الكاش) على أن تواكَب هذه الخطوة بخطوات عملية أخرى.
الفوائد الاقتصادية من هذا الأمر إذا حصل، عديدة، على رأسها بدء استعادة الثقة بالقضاء اللبناني والاستحصال على العملة الصعبة، التي يجب أن يكون استخدامها حصريًا في أمور أساسية وجوهرية وليس على طريقة أموال السحوبات الخاصة التي ذهبت بقسم منها وبقرارات حكومية لدعم قطاع كهربائي لا يعمل.
آن الأوان لتغيير المُعادلة اللبنانية. فهل من يُلبّي النداء؟