بداية، الولايات المتحدة دولة منقسمة.
منقسمة في السياسة، إذ أنّ لكلّ من حزبيها الكبيرين الجمهوري والديمقراطي مواقف سياسية متعارضة لا تلتقي إلّا مرحلياً لتمديد فترات سماح قبل بلوغ الأزمة.
منقسمة في الاقتصاد، إذ أنّ الفالق يتّسع بين القادرين مادياً والمعوزين. ومواقف الحزبين هنا أيضاً متعارضة. فالديمقراطيون يتحدثون عن عدالة في توزيع الموارد والثروات، فيما يرد الجمهوريون بمعارضة "الأخذ من الغني لإعطاء الفقير" قائلين إنها سياسة شيوعية أو اشتراكية ليست مقبولة في الولايات المتحدة.
منقسمة عرقيا، وأكثر ما يُبرز هذا الانقسام العرقي المواقفُ من الهجرة: الديمقراطيون لا يمانعون تسهيل إجراءاتها فيما الرئيس السابق دونالد ترامب يصرّ – ومن ورائه الجمهوريون – على نعت المهاجرين من اميركا اللاتينية بالحيوانات والمجرمين، ويتساءل لماذا لا يهاجر البيض الأوروبيون إلى أميركا بدلاً من مهاجرين من آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية.
مثال آخر على الانقسام العرقي يبرز في الولايات الجنوبية ويتمثل في محاولات الجمهوريين الحثيثة تقسيمَ الدوائر الانتخابية بطريقة تجحف حقوق الأميركيين من أصول أفريقية.
الجديد اليوم أن الحزب الجمهوري منقسم على نفسه.
بدأ الانقسام السياسي الفعلي في المجتمع الأميركي في انتخابات العام 2000 حين فاز الجمهوري جورج بوش الإبن مع نائبه ديك تشايني على الديمقراطييْن آل غور وجو ليبرمان – الذي توفّي الشهر الفائت – بقرار من المحكمة العليا الأميركية.
واستمرّ الانقسام السياسي وتعمّق حين غزت الولايات المتحدة العراق بدون إعلان الحرب رسميا، ويستمر عدد من القادة التقليديين للحزب الديمقراطي وفي إدارة الرئيس بايدن اليوم في التأكيد أنّ غزو العراق خطأ استراتيجي قام على كذبة وكلّف الولايات المتحدة خسائر في كل من أفغانستان والعراق ومنعها من ربح أي من الحربين. ويقولون أيضا إنه خطأ استراتيجي حتى لو كان سبب "الفوضى الخلاقة" في رسم "معالم الشرق الأوسط الجديد."
وتعمّق الانقسام بعد انتخاب الرئيس باراك أوباما، أول رئيس من أصول أفريقية للولايات المتحدة وصاحب أفكار ليبرالية لم يستسغْها السواد الأعظم من الجمهوريين المحافظين، وهم من البيض ذوي الأصول الأوروبية.
وتكرّس الشرخ مع انتخاب دونالد ترامب. لكنّ ترامب تسبب بشرخ داخل الحزب الجمهوري، إذ انتهج أسلوبا شخصانيا في الحكم وبدّل معاونيه كما كان يبدّل ثيابه. وتكفي مراجعة الكتب التي كتبها عن ترامب أقربُ معاونيه وهو لا يزال في الحكم، لمعرفة مدى الفوضى وصراع النفوذ والولاءات الكاذبة والرغبة في تجاوز المؤسسات ووضعها في خدمته الشخصية.
نتيجة الخسارة – التي لم يعترف بها بعد – في آخر انتخابات رئاسية، شددّ ترامب قبضته على الحزب الجمهوري دافعاً العديد من قادته التقليديين إلى انتقاده وانتقاد مواقفه ونهجه والاستقالة والعزوف عن الترشح لمجلسي الشيوخ والنوّاب. ومن هؤلاء على سيبل المثال نائبُ الرئيس السابق مايك بنس، وحاكم نيو جرزي السابق كريس كريستي، والمسؤولة الثانية سابقا في مجلس النواب ليز تشايني وعدد ليس بقليل من النواب الجمهوريين.
آخر أعضاء مجلس النواب الذين أعلنوا استقالتهم قبل انتهاء عقد المجلس الحالي النائب الجمهوري عن ولاية وسكنسن مايك غلاغر الذي ستصبح استقالته نافذة في التاسع عشر من هذا الشهر. وسبقه عشرون من زملائه الجمهوريين.
بعد التاسع عشر من هذا الشهر ستصبح رئاسة مايك جونسون لمجلس النواب صعبة لأن الأغلبية الجمهورية لن تتأمّن بأكثر من صوت. ويجد جونسون نفسه مهددا بفقدان منصبه إذ تقف له بالمرصاد مجموعة المتشددين الموالين لترامب، وخصوصا النائبة عن ولاية جورجيا مارجوري تايلور غرين التي وجّهت في بداية هذا الأسبوع رسالة إلى زملائها الجمهوريين اتهمت فيها مايك جونسون بخيانة مبادئ الحزب الجمهوري وبالاستعانة بالديمقراطيين للبقاء في منصبه.
وركزت تايلور غرين في رسالتها على مشروع حونسون للإفراج عن مساعدات مالية وعسكرية إلى أوكرانيا من ضمن مساعدات مالية وعسكرية سيخصَّص بعضُها إلى إسرائيل. وسيتمّ ذلك بالتعاون مع الديمقراطيين. لكنّ إرسال مساعدات إلى إسرائيل قد يكون أصعب وأكثر تعقيداً مع تحوّل المزاج الشعبي الأميركي وارتفاع أعداد الضحايا الفلسطينيين في قطاع غزّة
النواب الجمهوريون الذين أعلنوا عزوفهم عن الترشح "لتخصيص وقت أكبر للعائلة" وعدد من كبار الأعضاء الجمهوريين في مجلس الشيوخ يشكون من أن ترامب وأنصاره في مجلس النواب ينشرون دعاية روسية حذّرت من خطورتها النائبة الجمهورية عن ولاية واشنطن كاثي ماك موريس. ومن الذين حذّروا من هذا الموضوع أيضا عضوا مجلس الشيوخ الجمهوريان جون كرونين من تكسس والمرشح الرئاسي السابق مِيتّ رومني من يوتاه.
موضوع شكوى آخر في صفوف الجمهوريين لا يقل أهمية وأظهره أكثرُ من استطلاع رأي أجري في الفترة الأخيرة من بينها واحد مشترك لـ إيبسوس ورويترز، وآخر للأسوشيتد برس والجامعة المريمية، وثالث لجامعة ماساتشوشتس في أمهرست. في هذه الاستطلاعات عبّر الجمهوريون عن ميل للتغاضي عن جنوح ترامب السلطوي وعن رغبتهم في رؤية "رئيس قوي يحكم بعيداً عن رقابة الكونغرس والقضاء،" وهو ما يخالف جوهر النظام الأميركي القائم على استقلال السلطات وتعاونها ومراقبة بعضها بعضا لضمان حسن سير عملها.
وزاد من حدة الانفسام إعلانُ رئيس مجلس النواب السابق كفين ماكارتي من كاليفورنيا وأربعة من كبار معاونيه، بينهم النائب غريغ بنس، الشقيق الأكبر لنائب الرئيس السابق مايك بنس، أنهم لن يترشحوا. ولم يخف النواب الواحد والعشرون أن سبب مغادرتهم هو استيلاء المتطرفين الموالين لترامب على قرار الحزب وقرار المجلس ورفضهم التعاون مع الديمقراطيين.
آخر مظاهر الانقسام الداخلي حصل الأربعاء الفائت حين تمرّد تسعة عشر نائبا من نواة ترامب الصلبة لمعارضة التجديد لقانون – ينتهي مفعوله آخر هذا الأسبوع – يجيز التنصت على الأجانب بدون الحصول على مذكّرة قضائية، ويفرض شروطا أكثر صرامة على التنصت على المواطنين الأميركيين. وحصل التمرد بناء على طلب من ترامب الذي اتهم الأجهزة الأمنية بالتنصت على حملته الانتخابية قبل ثماني سنوات. وإذا كان رئيس المجلس مصرّا على تجديد القانون فلا بدّ له من طلب تأييد الديمقراطيين.
رغم هذا الانقسام الداخلي، لا يوجد الآن من ينافس ترامب على ترشيح الحزب الجمهوري للرئاسة. أما السؤال الكبير فهو إلى أي مدى سيؤثّر هذا الانقسام في دفع الجمهوريين المعتدلين أو المستقلين من ذوي الهوى الجمهوري إلى اختيار بايدن في انتخابات تشرين الثاني المقبل، تماما كما السؤال هل يمكن أن يستعيد بايدن الأصوات التي نفرت منه بسبب مواقفه تجاه إسرائيل في غزة؟