يكاد نصف قرن يمضي على حرب 13 نيسان، وعشية الذكرى ما برح لبنان غارقاً في مستنقع القلق والتشنّج والعنف والدموية. مشهدية العام 1975 حاضرة بجوهرها في العام 2024 مع بعض الاختلافات الشكلية وتغيّر بعض الوجوه والمسمّيات. ما زال الوطن مشلّعاً على وقع ولاءات بعضهم لمشاريع عابرة لحدود مفهوم الدولة. ما زال تمجيد قضايا الآخرين على حساب قضية الوطن. ما زال السلاح غير الشرعي تحت توصيفات مجمّلة على حساب السلاح الشرعي، والجزر الأمنية على حساب بسط سلطة الدولة.
ففي خضمّ الانقسام العمودي والتشنّج الأفقي على وقع الانهيار غير المسبوق على الصّعد كافّة منذ 17 تشرين الأول 2019 وما تلاه من انفجار المرفأ عام 2020، والفراغ المستشري بدءاً من رأس الهرم، أي رئاسة الجمهورية، وبوادر التحلّل المؤسساتي، وعبء النزوح السوري وتداعياته، والحرب التي تبرّع "حزب الله" بفتحها جنوباً منذ 8 تشرين الأول 2023 وما رافقها من شرخ في المواقف بين اللبنانيين من "وحدة الساحات" إلى "ربط مصير لبنان بغزة"، أتت عملية خطف منسّق "القوات اللبنانية" في منطقة جبيل باسكال سليمان الأحد 7/4/2024 على بعد مئات الأمتار من بلدته ميفوق.
خطفٌ لم يدُم أكثر من 24 ساعة، فانتهى باسكال المفعم بالحياة جثّة "تضجّ بالموت" في سوريا. خطفٌ اُكتُشف منذ اللحظة الأولى إذ صودف أنّ المخطوف كان على اتصال هاتفي مع رئيس مركز "القوات اللبنانية" في عمشيت، وقد سمعه يقول لخاطفيه "يا خيي شو باك كسرت عليي... لا، لا مش براسي عندي ولاد ما تقتلني... دخيل إجريكن ما تقتلوني" قبل أن ينقطع الاتصال. فجرى تبليغ القوى الأمنية فوراً وعوّل كثيرون على أن يكون الكشف الفوري للخطف نقطة إيجابية تسهّل سرعة التعقّب.
في شريط الأحداث يوم الإثنين، ثلاثة بيانات للجيش اللبناني عبر منصة "أكس":
* الأول، عند الساعة 8:39 صباحاً، أعلن فيه عن توقيف مديرية المخابرات عدداً من السوريين المشاركين في عملية الخطف.
* الثاني، عند الساعة 4:04 عصراً، أعلن فيه عن توقيف مديرية المخابرات 3 سوريين إضافيين مشاركين في عملية الخطف.
* الثالث، عند الساعة 9:12 ليلاً، أعلن فيه عن توقيف مديرية المخابرات معظم أعضاء العصابة السوريين المشاركين في عملية الخطف. الأهم ما جاء حرفياً في البيان: "تبيّن خلال التحقيق معهم أنّ المخطوف قُتِل من قبلهم أثناء محاولتهم سرقة سيارته في منطقة جبيل، وأنهم نقلوا جثته إلى سوريا".
في المقابل، لم يصدر عن "القوات" رسمياً سوى دعوة إلى الإقفال في جبيل استنكاراً لخطف سليمان ودعوة الأحزاب والشخصيات الحليفة والمستقلة إلى الوقوف صفاً واحداً استنكاراً لأيّ اعتداء على الحرّيات العامّة والخاصّة في لبنان.
بديهياً، استحضر خطف سليمان في وجدان "القواتيين" وفي ذاكرة اللبنانيين مسلسل الخطف والاغتيال الذي شمل كوادر قواتية عدة، كان آخرها خطف القيادي "القوّاتي" واغتياله في منطقة بنت جبيل الياس الحصروني "الحنتوش" في مسقط رأسه أيضاً في عين إبل في 2/8/2023. مسلسل كان قد حصد 4 كوادر "قوّاتية" أساسية في مطلع مرحلة الطائف:
- سامي أبو جودة داخل محله في مسقط رأسه الزلقا في 18 /12/1990.
- إيلي ضو داخل منزله في بلدته كفرشيما قبيل عيد الميلاد في 23/12/1990 ونجت زوجته لينا والجنين بأعجوبة رغم الرصاصات السبع التي توزعت في أنحاء جسمها وحمل الولد لاحقاً اسم أبيه.
- سليمان عقيقي (شلومو) في بلدته الكسروانية كفردبيان عشية عيد الميلاد في 24/12/1991.
- نديم عبد النور ابن عيتنيت البقاعية في قلب الأشرفية في 3/5/1992 حيث استجدى المسلحين أن يُنزل ابنه من بين ذراعيه، فكان له ما طلب وكانت الرصاصات القاتلة.
يومذاك وصلت الرسالة الرباعية الممهورة بالدم إلى رئيس "القوات" سمير جعجع وكانت أشبه بالضوء الأخضر لمرحلة حلّ "القوات" وحظر "الحزب" واعتقال جعجع.
حضرت أيضاً منذ اللحظة الأولى لخطف سليمان عملية خطف المهندس رمزي عيراني في 7/5/2002. ثمّة أوجه الشبه كثيرة في نظر "القوّاتيين" بين حادثتي رمزي وباسكال، فهما وجهان شبابيان محبّبان ومسالمان، ناجحان في حياتهما المهنية وربا عائلة.
شريط الاغتيالات حضر عفوياً في اللاوعي الجماعي "القوّاتي"، في حين أن وعي القيادة "القوّاتية" دقة المرحلة وهشاشة الوضع اللبناني ومسؤوليتها الوطنية دفعاها إلى منع توجيه أيّ اتهام إلى أيّ طرف قبل انقشاع خيوط الجريمة ومعرفة مسار التحقيق.
لم تتّهم "القوات" أحداً في بيانها ولم تردّ حتّى على كلام نصرالله الذي لامس حد اتهامها بالفتنة والبحث عن حرب أهلية
نزل سمير جعجع شخصياً إلى مقرّ منسقية جبيل في "القوات" في مستيتا رغم المخاطر الأمنية، ولم يمض على ذكرى محاولة اغتياله في 4/4/2012 أيام وملف تحقيقها فارغ على غرار جرائم اغتيال عدة استهدفت "القوات" و"14 آذار". نجح بضبط بركان الغضب الشعبي وقطع الطريق على أيّ فخ لاشتباك مع السوريين قد يدخل البلاد في نفق لا تُعرف عقباه، أو لفشّة خلق ضدّ أيّ من الخصوم السياسيين الذين اشتعلت وسائل التواصل الاجتماعي لبيئتهم بفبركة الاتهامات لسليمان من تجارة الكيبتاغون إلى العمالة لإسرائيل وما بينهما. ضبطت "القوات" شارعها بقطع مضبوط لأوتوستراد جبيل وتشديد القيادي فيها شربل أبي عقل على التجاوب مع الجيش إن حاول فتح الطريق وعدم الاصطدام مع أحد. فلم تسجّل أيّ حادثة تذكر أو أيّ ظهور مسلّح أو "غزوة" لدراجات نارية كما اعتاد لبنان في حوادث شبيهة في مناطق أخرى.
إلّا أنّ هذا المشهد وإصرار "القوات" على عدم توجيه اتّهام إلى أي طرف بخطف سليمان أكان في البيان الصادر عنها أو في تصاريح مسؤوليها، قوبلا بهجوم لافت للأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله خلال اللقاء الذي نظّمه حزبه لمناسبة اغتيال الجنرال الإيراني محمد رضا زاهدي، فقال نصر الله: "خُطف شخص فخرج حزبا "القوات" والكتائب والتلفزيونات الخبيثة وقرّروا أنّ "حزب الله" هو الخاطف، وسمعنا كلاماً يُذكّر بالحرب الأهلية (...) إنّ كشف مصير المخطوف فضيحة حقيقية لحزبي "القوات" والكتائب تُظهر أنّهما ليسا أهل حق وحقيقة، وأنّهما من أصحاب الفتن يبحثان عن الحرب الأهلية (...) حاولا بالأمس ترويع أهالي جبيل وكسروان وأرسلا رسائل تهديد، وهذه خطوة خطيرة جداً جداً حتى ينقطع النفس، وعليهم أن يفهما خطورتها".
ربّما توقّف نصرالله عند بعض حالات الغضب الإفرادية على وسائل التواصل الاجتماعي ولم يطلعه فريقه على التهليل والاتهامات التي وُجّهت إلى الضحية سليمان من قبل جمهوره، فهل وقع في فخ "السوشيال ميديا" ولم يرصد بشكل صحيح الموقف "القوّاتي" الرسمي؟ وهل من اعتداء واحد سُجّل على أهالي كسروان وجبيل؟
"القوات" لم تتوقّف عند كلام نصرالله - الذي ربما يهدف الى حرف الأنظار عن خطفه قرار الحرب والسلم وعن حجم فاتورة ما سمّاه "حرب الإشغال" جنوباً - في بيانها الصادر عقب الجريمة، والذي ركّز على:
*مطالبة الأجهزة الأمنية والقضائيّة بالتحقيق الجدّي والعميق مع الموقوفين في هذه القضية، لتبيان خلفيتها الحقيقيّة.
* إنّ ما سرِّب من معلومات حتى الآن عن دوافع الجريمة لا يبدو منسجماً مع حقيقة الأمر، إنما نعتبر استشهاد الرفيق باسكال سليمان عملية قتل تمّت عن عمد وعن قصد وعن سابق تصوّر وتصميم، ونعتبرها إلى إشعار آخر عملية اغتيال سياسية حتى إثبات العكس.
* دعوة المواطنين إلى ترك الساحات وفتح الطرق، وبخاصّة أنّ يوم الأربعاء هو أول أيّام عيد الفطر المبارك.
* التهيئة لوداعه بحشود كبيرة تشكّل رسالة رفض لسياسة الأمر الواقع والخطف والاغتيال والقتل وإبقاء لبنان ساحة فوضى وتفلّت أمني.
* التأكيد أنّه مخطئ كل مَن يظن أنّه بالاغتيال يستطيع تخويفنا وترهيبنا وردعنا عن استكمال مسيرتنا بقيام الدولة الفعلية التي يشعر فيها المواطن بالأمن والأمان.
قد يعتبر بعضهم أنّ التحقيقات كشفت عن حقيقة الجريمة كما قال نصرالله، لكنّ هناك بعضاً آخر لم ينس التحقيقات في جريمة الحصروني مثلاً، إذ وُضعت في إطار حادث السير قبل أن تكشف كاميرات المراقبة عملية الخطف. رغم ذلك، أصاب هذه التحقيقات الفراغ القاتل. لذا ثمة أسئلة مشروعة تُطرح:
* لماذا قتل سليمان وهو أعزل؟ وهل احتاج الذي قام بجريمة بهذه الاحترافية إلى ضربه ضرباً يتسبّب بقتله؟
* يقول بيان "الجيش" إن المخطوف قُتِل أثناء محاولتهم سرقة سيارته في منطقة جبيل، وأنهم نقلوا جثته إلى سوريا. فما الغاية من نقل الجثة الى خارج الحدود؟
* من يقف خلف منفّذي الجريمة؟ وهل غاية هذه الجريمة هي السرقة أم هناك من موّه بها؟
لم تتّهم "القوات" أحداً في بيانها ولم تردّ حتّى على كلام نصرالله الذي لامس حد اتهامها بالفتنة والبحث عن حرب أهلية. في حين نجحت "القوات" في قطع الطريق على أيّ فتنة أكان عبر عدم الوقوع في فخ "ردة فعل غرائزية" ضد السوريين – الحوادث التي وقعت بعد الإعلان عن الجريمة كانت جد محدودة- أو حتّى ضدّ خصومها في السياسية من بيئة السيد حيث لم تسجّل ضربة كفّ واحدة. لكن ألا يحقّ لها المطالبة برواية كاملة متراصّة ومدعّمة بالأدلّة في جريمة سليمان؟! وهل يُستكثر عليها اعتبارها العملية اغتيالاً سياسياً حتى إثبات العكس؟!