لطالما شكّل لبنان المحافظة السورية الخامسة عشرة "السليبة" في نظر حكّام الشام و"الخاصرة الرخوة لسوريا"، ليس بناء على نظريتهم المرتبطة بالتاريخ والجغرافيا فحسب، بل أيضاً بسبب ما شكّلته بيروت نسبياً من واحة حرية وديمقراطية مقارنة بمحيطها العربي المثقل بالديكتاتوريات، ومن حاضنة للمعارضين السوريين ومطبخ أحياناً للانقلابات التي شهدتها سوريا. أضف الى ذلك، تموضع لبنان في اصطفافات المحاور في المنطقة في إطار معاكس لسوريا، خصوصاً في حقبة "حلف بغداد". فشكّلت مقولة "الخاصرة الرخوة" ذريعة مستدامة لتدخّل سوريا في لبنان، بالواسطة أو مباشرةً كما جرى منذ العام 1975 إلى العام 2005.
في حقبة ما عُرف بـ"الربيع العربي"، ومع دخول سوريا في 15 آذار 2011 زمن التظاهرات الاحتجاجية السلمية الحاشدة والتي تدحرجت تدريجياً إلى حرب دموية، تحوّلت بلاد الشام من لاعب إلى ملعب. فقدَ رئيسها بشار الأسد الدور الإقليمي الموروث من والده الراحل حافظ الأسد والقبضة الحديدية المحلّية. فأضحت سوريا بمساحتها الممتدة على 185180 كلم2 ملعباً للصراعات بين بضع دول من إيران وملحقاتها الميليشياوية و"حزب الله" إلى روسيا وتركيا والولايات المتحدة الأميركية وحلفائها وإسرائيل ودول عدة مفبرِكة ومموّلة ومسلِّحة للفصائل المتقاتلة.
اليوم، مع انطلاق معركة "طوفان الأقصى" وبعدما كان الأمين العام لـ "حزب الله" حسن نصرالله - الذي ردّد مراراً أنّ "سوريا هي ظهر المقاومة وهي سندها" – وعد في 25-5-2013 بـ"النصر" في سوريا مبرّراً تدخّله في حربها وقتاله إلى جانب الحكم في دمشق بالقول "المقاومة لا تستطيع أن تقف مكتوفة الأيدي ويُكشف ظهرها أو يُكسر سندها"، ها هي سوريا "ظهر المقاومة" ومداها الحيوي تتحوّل إلى الخاصرة الإيرانية الرخوة لـ"الحزب".
نعم هي خاصرة إيرانية بما لها من حضور ودور عسكري ميداني، لأنّ سوريا بقيادة الرئيس بشار الأسد – الذي في الأساس هو فاقد لقبضة القرار على مساحات عدة من بلاده - "خارج الخدمة" في ما يتعلّق بما أسماه "محور الممانعة" "وحدة الساحات". نصرالله الذي اعتبر خلال إطلالته في "يوم الشهيد" في 11-11-2023 أنّ سوريا تدعم عبر الموقف، أمّا في لبنان فالكلمة للميدان، برّر لها ذلك بقوله: "لا أظنّ أنّ هناك أحداً يطالب سوريا كدولة وشعب بتقديم أكثر مما تقدّمه، وهي التي تخرج من حرب كونية وتقاتل داعش بحماية أمريكية، ورغم كلّ الجراح في سوريا فهي ما زالت في موقعها الصامد والحاضن للمقاومة".
ضرب "القنصلية" أسقط "الخطوط الحمر" وهو بمثابة استهداف للأراضي الإيرانية.
أخيراً، إسرائيل تستبيح سوريا بوتيرة متصاعدة عبر الاغتيالات والغارات التي تستهدف مستودعات وشحنات أسلحة وذخائر وتجمّعات عسكرية لـ"الحرس الثوري الايراني" و"حزب الله" تحت أنظار روسيا. دمشق تكرّر معزوفة الرّد في الزمان والمكان المناسبين. لكنّ التطوّر غير المسبوق هو حقيقة ما جرى في 1 نيسان 2024 عبر استهداف إسرائيل مبنى القنصلية الإيرانية في حي المزة بدمشق ومقتل قائد "فيلق القدس" في لبنان وسوريا العميد في "الحرس الثوري" محمد رضا زاهدي وعدد كبير من المستشارين العسكريين الإيرانيين والقادة الميدانيين لـ "الحرس" في سوريا. مع الإشارة إلى أنّ الولايات المتحدة تُدرج زاهدي على قائمة العقوبات منذ آب 2010 ضمن حزمة عقوبات شملت قيادة "فيلق القدس" لدورهم، وفق واشنطن، في رعاية الإرهاب وتمويل "حزب الله".
التعليق الإيراني جاء نسخة عن المعزوفة السورية "الردّ سيكون في الزمان والمكان المناسبين". ففي حين أعلن المتحدث باِسْم الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني أنّ إيران "تحتفظ بحق الرد على الهجوم الإسرائيلي"، وستحدّد "نوع الرد والعقاب بحق المعتدي"، أكد السفير الايراني في سوريا حسين أكبري أنّ بلاده "ستردّ بشكل حاسم" على القصف.
ضرب "القنصلية" أسقط "الخطوط الحمر" وهو بمثابة استهداف للأراضي الإيرانية. الأهمّ أنّه أكّد أنّ كل محاولات إيران التنصّل من أيّ علاقة بعملية "طوفان الاقصى" ذهبت مع الريح، أكان عبر:
* إنكارها منذ اللحظات الأولى علاقتها بالعملية في 7 أكتوبر 2023.
* نفي المرشد الإيراني علي خامنئي في 29-11-2023 أنّ "إيران تريد أن ترمي اليهود أو الصهاينة في البحر"، مؤكّداً أنّ "ذلك الكلام كذب وأشخاص آخرون من العرب هم الذين قالوه سابقاً".
* توقّف هجمات الفصائل المتحالفة مع إيران في العراق على القوات الأميركية منذ 4-2-2024 إثر زيارة قائد "فيلق القدس" إسماعيل قاآني بغداد وفق وكالة "رويترز" ولقائه ممثلي عدة فصائل مسلحة في مطار بغداد في 29-1-2024.
* طمأنة نصرالله خلال استقباله قاآني في بيروت في شباط الماضي إلى أنّه "لا يريد أن تنجرّ إيران إلى حرب مع إسرائيل أو مع الولايات المتحدة"، وأنّ "حزب الله سيقاتل بمفرده. فهذه هي معركته"، وفق ما نقلته "رويترز" في 15-3-2024 عن سبعة مصادر.
كلّ سرديات "محور الممانعة" من ضرورة الاتجاه شرقاً والتعويل على الصين وروسيا أسقطتها الوقائع الميدانية، أكان عبر الصمت الروسي عن الاعتداءات الإسرائيلية المتكرّرة على سوريا رغم الحضور المباشر لموسكو في الميدان السوري، أو عبر قرار الصين إرسال الأسطول الـ46 إلى منطقة البحر الأحمر لمرافقة الأسطول البحري الـ45 الموجود منذ وقت سابق في خليج عدن، بعدما تأثّرت الصين بعمليات الحوثي المتصاعدة في البحر الأحمر وفق مؤتمر صحافي عقده القائم بأعمال سفارتها لدى اليمن شاو تشنج في الرياض في 22-2-2024.
الغارة على القنصلية الإيرانية في دمشق تشكّل مرحلة متقدّمة من المخطّط الإسرائيلي لتجفيف منابع السلاح والذخائر ذات الصلة بـ"حزب الله" وقطع طرق الإمداد من إيران إلى "الحزب" بالتوازي مع الاستهدافات الإسرائيلية لـ"الحزب" وفق "بنك أهداف" محدّد. فإلى أيّ مدى بإمكان إيران الاعتصام بـ"الصبر الإستراتيجي"؟! أم سيتحوّل هذا الصبر إلى "حبل" مشنقة يلتف حول عنق طهران ومقصلة تقطع أذرعها في المنطقة؟!