مع استدامة الأزمة غير المسبوقة التي تعصف بلبنان في ظل سوء إدارة، لا بل غياب هذه الإدارة غيابًا تاماً، ومع إزدياد ترهّل المؤسسات جرّاء انضمام الإنهيار الى الفساد والزبائنية والفوضى - إلى حدّ يكاد يلامس التحلّل - أضحى المشهد اللبناني يترنّح داخلياً وخارجياً بين الخنوع لـ"الأمر الواقع" والاستعانة بـ "بدل عن ضائع".
في الميدان العسكري، يعيش لبنان حرباً متدحرجة منذ الثامن من تشرين الأول الماضي بحكم "الأمر الواقع" الذي فرضه "حزب الله"، المتحكّم بـ "قرار الحرب والسلم" جرّاء فتحه جبهة الجنوب تحت مسمّى "إشغال الجيش الاسرائيلي" أو "إسناد غزة" أو حتّى "الخطوة الاستباقية" للاعتداء الإسرائيلي على لبنان. حرب أرادها "الحزب" ضمن "وحدة الساحات" مضبوطة على إيقاع ما أسماه "قواعد الإشتباك" ووفق مصالح محور الممانعة. فسعى عبرها من جهة إلى الحفاظ على دوره الريادي في العمل المقاوم - ولو من باب "الحفاظ على ماء الوجه" - بالتحجّج بـ"الصبر الإستراتيجي" لعدم الانغماس أكثر في المواجهة، ومن جهة أخرى سعى إلى فرض نفسه "قوة ردع" بوجه الغطرسة الحربية الإسرائيلية.
لكن سقطت كلّ رهانات محور الممانعة بدءاً بأنّ إسرائيل سوف تُربك جرّاء حجم عدد الرهائن ولن تفتح حرباً على غزة، إلى مقولة إنّها لن تجرؤ على اجتياح بري للقطاع وإنّ جيشها لا يقاتل في الميدان، أو إنّ حجم الإجرام الإسرائيلي سيدفع المجتمع الدولي إلى منح تل أبيب "فترة سماح" محدودة لا تتعدّى مطلع العام 2024. كما أنّ إسناد "الحزب" لغزّة لم يَحُل دون تعرّض أهلها لإبادة جماعية وتحوّلها إلى أكبر رقعة دمار على وجه الأرض. كذلك لم ينجح "الحزب" في ردع العدوان على لبنان حيث تستبيح إسرائيل سماءه وتضربه وفق "بنك أهداف". لذا أضحى "الحزب" يبحث عن "بدل عن ضائع" حين يردّ عسكرياً على قصف العمق اللبناني في بعلبك باستهداف الجولان المحتلّ، أو حين يكاد يجزم بأنّ أيّ هدنة في غزة ستشمل لبنان حكماً أو حتّى حين يعتبر أنّ عدم القضاء على "حماس" هو انتصار، وإن محت إسرئيل غزّة على بكرة أبيها.
المشهد اللبناني يترنّح داخلياً وخارجياً بين الخنوع لـ"الأمر الواقع" والاستعانة بـ "بدل عن ضائع".
في الميدان السياسي، يعيش لبنان فراغاً متفاقماً على صعد عدة. بابُه الشغور الرئاسي بحكم "الأمر الواقع" الذي يفرضه "الثنائي" الشيعي لإيصال مرشّحه رئيس "تيار المرده" سليمان فرنجية عبر تمنّع الرئيس نبيه بري عن الدعوة إلى جلسات انتخاب رئيس بوتيرة متسارعة، وعن الانتقال إلى الدورة الثانية من خلال تطيير النصاب. فـ"الثنائي" يعوّل على سياسة "التعطيل" التي ينتهجها لإيصال فرنجية بعدما أفضت سابقاً إلى نتائج طيّبة، أبرزها:
* عام 2008، إيصال العماد ميشال سليمان رئيس تسوية عقب "إتفاق الدوحة" بعد تدعيم التعطيل باستباحة بيروت في "7 أيار"، وبالتالي ضرب مفاعيل امتلاك "14 آذار" أكثرية نيابية، وقطع طريق بعبدا على أيّ مرشح لها.
* عام 2016، إيصال العماد ميشال عون رئيساً بدعم من "محور الممانعة" و "بندقية المقاومة" وفق ما أعلن نائب "الحزب" نواف الموسوي من ساحة النجمة بعدما نجح في زرع الشقاق في صفوف "14 آذار" عقب استدراج الرئيس سعد الحريري للبحث في ترشيح فرنجية.
لذا تشهد الساحة اللبنانية مبادرات ومساعي ليس آخرها داخلياً مبادرة "تكتّل الإعتدال الوطني" وخارجياً مساعي "الخماسية" وجميعها أشبه بـ"بدل عن ضائع" هو الدستور ونصوصه وآلياته. حتّى أنّ بعض الأطراف في الداخل بدأ يستخدم هذه المعادلة كرئيس "التيار الوطني الحر" النائب جبران باسيل الذي يدرك بحكم "الأمر الواقع" أنّ حظوظه شبه معدومة بالوصول إلى بعبدا، وأنّ علاقاته السياسية تتأرجح بين "تقاطع" لا يسمو إلى التحالف مع "القوات اللبنانية" وقوى المعارضة وبين "تحالف" انكسر مع "حزب الله" وأصبح "ع القطعة". لذا يحاول باسيل تكراراً الدفع باتجاه لقاء للقادة المسيحيين في بكركي وكانت آخر محاولاته عبر استحلافهم بـ"دم آلاف الشهداء وبشير الـ10452 كلم2"، لكن بعد تعذّر ذلك، حاول الاستفادة من اللقاء حول ورقة عمل يعمل عليها بين الفرقاء المسيحيين بمواكبة من راعي أبرشية إنطلياس المارونية المطران أنطوان بو نجم - عُقد الأسبوع الماضي وهو ليس الأول من نوعه – كـ "بدل عن ضائع" عن لقاء القادة الموارنة في بكركي.
في الميدان الدبلوماسي، حدّث ولا حرج، بين حكومة متقاعسة عن القيام بدورها يتبنى رئيسها سردية "حزب الله" في حين أن وزير خارجيتها عبدالله بو حبيب يتبنّى "وحدة الساحات" عبر ربط لبنان بغزّة، ويعلن استعداد لبنان للدخول في الحرب مع اسرائيل قبل أن يطلّ عبر "الحرة" في 26-3-2024 ويوضح أن كلامه كان "غلطة". "الأمر الواقع" الذي يفرضه "حزب الله" وتتعامل معه الدول "بدل عن ضائع" عن دولة فاقدة زمام الأمور. فوضع إطار للحدود البحرية جاء ثمرة تفاوض مع رئيس مجلس النواب نبيه بري لسنوات عدّة، ثم سلّم زمام الأمور إلى رئيس الجمهورية من أجل "مفاوضات الصورة". كما أنّ عين التينة هي الممرّ الأول للموفد الأميركي آموس هوكستين في مساعيه لتثبيت الحدود البرية ولتهدئة جبهة الجنوب. كذلك، تفاوض الإمارات العربية المتحدة مباشرةً مع "حزب الله" عبر مسؤول وحدة الارتباط والتنسيق في "الحزب" الحاج وفيق صفا بشأن رعايا لبنانيين، متخطّية المسارات الديبلوماسية والدولتية التقليدية. لا يمكن أن ننسى توجيه وزير الثقافة القاضي محمّد وسام المُرتَضى كتاب تهنئة حافلاً بالمواقف السياسية إلى نظيرته الروسية لمناسبة إعادة إنتخاب الرئيس فلاديمير بوتين لولاية جديدة، وذلك خلافاً للأصول الديبلوماسية وللبروتوكول إذ إنّ هذا الأمر من صلاحيات رئيس الجمهورية - إن وجد - ووزير الخارجية.
معادلة "الأمر الواقع" و"البدل عن ضائع" قائمة في الميادين كافة، منها في النقد والمال مع تعاميم "همايونية" ومنصّة "صيرفة" بدل إعادة أكثر من 70 مليار دولار من الودائع الضائعة في مثلث "برمودا" "الحكومات المتعاقبة - المصرف المركزي- المصارف"، كذلك في الصحّة مع رفع الدعم وإدخال الدواء الإيراني الذي لا تنطبق عليه المعايير المعتمدة في لبنان، ومنها حصوله على موافقة الهيئات الناظمة العالمية المعترف بها FDA approval. لكن الأخطر يبقى استسلام البعض لـ"الأمر الواقع" وبحث البعض الآخر عن وطن "بدل عن ضائع".