غريبٌ عجيبٌ أمر لبنان ونخبه السياسية! قراءة الصحف والمواقع الإخبارية منذ أربعة أشهر إلى اليوم تُشير إلى أنّ لبنان يُراوح مكانه. الأخبار نفسها والمواقف نفسها ومنهجية التعاطي نفسها مع مصالح المواطنين. فُلان يُهاجم فُلانًا، والأخير يردّ عليه كأننا في مزايدة لا تعود بأيّة منفعة على المواطن ولا تُخرج لبنان من أزمته الاقتصادية والمالية القابع فيها منذ أربعة أعوام ونيّف.
وعلى الرّغم من أنّ الحلول التقنية كثيرة ومُتعدّدة وتسمح بهامش استيعاب للمواقف السياسة لمختلف القوى على الساحة اللبنانية، نجد حالة من الجمود المُطبق الذي أصبح يُشكّل خطرًا وجوديًا على ديمومة الشعب والكيان اللبناني.
لم تنجح الحكومة ومن خلفها القوى السياسية في حلّ أيّة مُشكلة واجهت لبنان. نكتفي باستعراض المشكلات الاقتصادية والمالية. الملفات كثيرة ومُتعدّدة من أعقد الملفات مثل ملفّ الودائع إلى أبسطها مثل ملفّ الطوابع، مرورًا بالدين العام، والنافعة، والعقارية، والتهريب الجمركي، والتهرّب الضريبي، والكهرباء، وإعادة هيكلة القطاع العام، والفساد... مشكلات وافرة من دون أيّة حلول.
لم تنجح الحكومة ومن خلفها القوى السياسية في حلّ أيّة مُشكلة واجهت لبنان.
كيف لحكومة أن تعجز عن تأمين طوابع لمواطنيها لإجراء المُعاملات؟ طابع العشرة آلاف ليرة يُباع في السوق السوداء بمئتي ألف ليرة! وهذا بعد التوسّل إلى عصابات تحتكر الطوابع فور صدورها. ألا تعلم أجهزة الدولة من يحتكر هذه الطوابع؟ ألا يُمكنها تفعيل الطابع الرقمي أقلّه في مؤسساتها ووزاراتها؟ هذا الملف البسيط يحرم خزينة الدولة من مداخيل ويُعطل حياة المواطنين الخاصة وعالم الأعمال.
كيف لحكومة أن تعجز عن تشغيل مرفق حيوي مثل النافعة وعشرات آلاف السيارات تسير من دون تسجيل وآلاف المراهقين يقودون سيارات من دون رخص سوق؟ أيعقل هذا الأمر في بلدٍ زاخر بالكفاءات العلمية والتقنية لتشغيل مرافق أكثر تعقيدًا من هذا المرفق؟
كيف لحكومة أن تعجز عن تشغيل مرفق العقارية وهو مصدر أساسي لمداخيل الدولة؟ كمٌّ هائلٌ من المبيعات العقارية مُسجّلة بحسب وكالات لدى كتاب العدل من دون أن يكون هناك استيفاء لرسوم الخزينة ومُستحقّاتها. إنّه لأمر مُستغرب أن تعجز الحكومة عن تأمين موظّفين قادرين على تأمين هذه الخدمة وهي التي تدفع أكثر من نصف موازنتها أجوراً للقطاع العام!
وهذا يقودنا إلى مُشكلة إعادة هيكلة القطاع العام الذي يعجز (إراديًا أو لا إراديًا) عن تأمين الخدمات العامّة كما ينبغي. هذا القطاع الذي يُشكّل الملعب الأساسي لنفوذ القوى السياسية، يواجه معضلة عجز الدولة عن تمويله، وفي الوقت نفسه، عجزه عن تأمين الخدمات. العديد من موظفي القطاع العام (بكلّ التسميات) يعملون في القطاع الخاص، لماذا إذًا لا تُقدّم تحفيزات إل. هؤلاء من أجل ترك القطاع العام بدل إعطائهم تحفيزات مالية غير كافية لحياة كريمة (والدليل أنّهم يعملون في القطاع الخاص) وتفرض على خزينة الدولة التزامات على المدى الطويل لن يكون بمقدورها تأمينها.
عشرات وعشرات المؤسسات غير المجدية اقتصاديًا ذكرها تقرير لجنة المال والموازنة في العام 2019 (أكثر من 90 مؤسسة) واقترح إقفالها. لماذا إذًا لا يتمّ إقفالها وما هو المانع؟
وماذا نقول عن مُشكلة الكهرباء التي شكّلت على مدى أربعة عقود الثقب الأساسي لخزينة الدوّلة مع أرقام خيالية حُوّلت إلى هذه المؤسسة من دون جدوى فعلية! ألا يحقّ للمواطن الذي دفع أكثر من خمسين مليار دولار أميركي أن يعرف حقيقة ما يحصل في هذا القطاع؟ لماذا لا يجري تحريره وتلزيمه للقطاع الخاص مع رقابة حكومية؟
ولا يُمكن نسيان مُشكلة مياه الشرب التي تتسبب في مشكلة في عزّ فصل الشتاء، إذ نرى الصهاريج تنقل المياه إلى المواطنين. هل يُمكن أن نعرف لماذا يستطيع أصحاب الصهاريج إيجاد المياه بينما لا يُمكن الأنابيب التابعة للدولة أن تجد مياهًا؟
كذلك هناك مُشكلة الصرف الصحي، حيث يتمّ التفريغ في الحقول مما يسبّب تلوّثًا لينابيع المياه، خصوصًا على المرتفعات. وهذا يُذكّر بردّ وزير سابق على سؤال عن سبب عدم تنفيذ مشاريع الصرف الصحي في حين أنّ التمويل الأوروبي كان مؤمّنًا. ردّ ببساطة: "عندما تدخل السياسية في اللعبة تتعطّل الأمور".
وفي الشق الاجتماعي، يُعاني المواطن المُصاب بأمراض مُزمنة من نقص في الأدوية وعدم تقديم العلاجات المُسكّنة إليه. أيُعقل في العام 2024، مع كل التقدّم التكنولوجي والتطور الذي حصل في كلّ المُجتمعات الغربية والعربية، أن لا يستطيع المواطن اللبناني في بلدٍ كان يُصنّف مستشفى الشرق الأوسط، من تلقّي العلاج؟
وماذا عن رفع الأسعار المُستمر بدون أيّ تبرير؟ قالوا للمواطن، عندما يتمّ التسعير بالدولار تُضبط الأسعار وتغدو الرقابة فعّالة أكثر فأكثر، وتستقرّ الأسعار! "يا حرام" كما يُقال بالعاميّة! يا حرام على اللبناني! عبوة المياه رُفع سعرها 25% بين ليلة وضحاها من دون أيّ تبرير منطقي. وماذا فعلت الحكومة؟ لا شيء!
الغريب العجيب هو رفع الدعم عن كلّ شيء تقريبًا، ولم يبقَ إلّا القليل القليل من المواد المدعومة، مثل الخبز الذي يكثر الحديث عن رفع الدعم عنه في المرحلة المُقبلة، وبعض الأدوية التي، على الرّغم من دعمها، ليست موجودة إلّا في السوق السوداء. وعلى الرغم من رفع الدعم، نرى أنّ آليّة عمل الأسواق مُعطّلة وخاضعة لكرتيلات أقوى من قدرة الحكومة على تفكيكها.
إنّه العجز المُطلق!
كيف يُمكن تغيير الوضع؟ الجواب يكمن في تغيير مزاج الناخب اللبناني. فبغضّ النظر عن الأبعاد والخبرات السياسية التي نحترم تنوّعها، فشلت السلطة السياسية المُنتخبة من الشعب في تأمين حياة كريمة لهذا الشعب. أكثر من ذلك، أصبحت جميع القرارات الاقتصادية والمالية والنقدية عملة تداول في اللعبة السياسية التي من المفترض أن تكون غير خاضعة لحسابات سياسية، عملًا بمبدأ أنّ النخبة السياسية هي في خدمة الشعب ومؤتمنة على مصالحه. فأين النخبة السياسية، اليوم، من مصالح المواطن؟