يتّصف صحن الفتوش اللبناني بمحافظة مكوّناته على تمايزها، فلا ذوبان لمكوّن في آخر، واختلاف المكونات هو ما يمنح هذه الوجبة نكهتها الخاصة، انطلاقاً من توازن حضورها وتكاملها. فإن طغى حضور مكوّن على آخر اختلّ الطعم وفقد الفتوش معناه، وتحول إلى سَلَطة عادية لا يهمّ توازن تركيبتها أو بنيتها. وما يجمع المكونات هو تلك الخلطة السحرية مع زيت الزيتون، تلك الشجرة المباركة التي تنتشر زراعتها منذ تكوّن هذا الوطن الصغير في مختلف مناطقه.
وطن الفتوش، وليس في الأمر انتقاص من الأرز رمز الوطن، ولا استحضار لمحاولات البعض استبدال شتلة التبغ بالأرزة. كلّ ما في الأمر هو محاولة توصيف استعصاء المكونات على الذوبان بعضها في بعض، مع إمكانية أن تسبح جميعها في زيت المواطنة الذي يلحُم في ما بينها من دون طغيان أو استقواء. ولكن واقع عدم الذوبان لا يلغي أهمّية تقارب النكهات وتآلفها، وإلّا لفسد الطعام، أو بالأحرى لتفكّك الوطن. والحديث عن التآلف يرتدي أهمّيته من اعتبار كل مكوّن ذا نكهة واحدة لا مجال فيها لاختلاف ولو بسيط. والمشاركة في صحن السُلطة لا السَلطَة، تنظر إليه كلّ جماعة على اعتبارها صفّاً واحداً بمشروع واحد. وهكذا يصبح الحديث عن المكونات باعتبارها من لون واحد ولا مكان للون مختلف فيها. فالثنائي الشيعي يحتكر النطق بلسان الشيعة في النظام، وإن خرج صوت شيعي على هذا "الإجماع" لقيل إنّه لا يمثّل ولا يعبّر إلا عن رأيه أو رأي قلّة لا ضرورة للتلهّي بها، أو يمكن أن يذهب الأمر إلى أبعد من هذا. وما يتصل بالثنائي الشيعي لا يختلف كثيراً عن المكونات الأخرى. فحين قرّر التيار الوطني الحر في العام 2006 توقيع تفاهمه الشهير مع حزب الله قيل إنه ذهب عكس المزاج المسيحي العام، وحين اختلف مع الحزب أخيراً قيل الكثير عن عودته للانسجام مع توجهات الجماعة. وعلى مقلب الحزب أيضاً صوّب كثيرون من داخل الطائفة ضده واستحضروا تاريخاً من الحرب الأهلية ليرفضوا ورقة تفاهم على اعتبار أن انفتاح الحزب على التيار خطيئة. وحين دب الخلاف بين الطرفين ارتفعت أصوات تثمّن وحدة الطائفة كمكوّن ولو على حساب وحدة الوطن. وحين خرجت راهبة تشيد بـ"المقاومين" في جنوب لبنان وتدعو طلابها إلى الدعاء لهم، ارتفعت أصوات تقول بمنعها من الكلام وحتى بمعاقبتها. وعلى ضفة الطائفة الدرزية مثلاً تكثر الأمثلة الشعبية التي تتحدث عن أهمية وحدة أبناء الطائفة بغضّ النظر عن الخيارات الكبرى. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الطائفة السنية التي تعيش اليوم حالة من فقدان الوزن نتيجة عجز قياداتها عن صوغ موقف موحّد ممّا يواجهه الوطن من تحدّيات. هي ديمقراطية الجماعات في الكيان حيث لا ديمقراطية داخل الجماعة. فهل كان الفتوش ليفقد توازنه لو أنّ لبعض المكونات نفسها نكهات مختلفة؟
المشاركة في صحن السُلطة لا السَلطَة، تنظر إليه كلّ جماعة على اعتبارها صفّاً واحداً بمشروع واحد.
لا يملك المواطن اللبناني جواباً في هذه المسألة كما في غيرها من المسائل ما دام الأمر باقياً بيد الخماسية الدولية المعلنة بمواجهة اللاعبين الآخرين المستترين. ولا موقف موحّداً من الاعتداءات التي يتعرّض لها جنوب البلاد وعمقها ما دام ممكناً التلهّي بمسلسلات رمضان، ولا داعي لرصد مسيّرات القتل في سمائنا ما دمنا سلّمنا أنّنا غير معنيين بما يجري عند حدودنا الجنوبية.
أبعد من حدودنا، هناك من ينظر إلى السماء ليصلّي أو ليرصد الموت الآتي مع الطائرات الحربية الإسرائيلية أو المساعدات الغذائية التي تلقيها الطائرات العابرة ومغامرة التقاطها من دون التعرّض لنيران جيش الاحتلال. هناك، حيث الصوم يُفرض فرضاً بالحصار جوعاً وعطشاً وقنصاً، هناك حيث لا موائد رمضانية ولا سهرات طرب أو احتفالات، هناك مواكب تشييع الضحايا والمقابر الجماعية وبكاء الأطفال والنساء وانكسار الرجال. هناك حيث لم يعد خبر الموت أو المجازر يجد مكاناً ضمن برمجة رمضان التلفزيونية.
قد يصلح فتّوش الوطن ذات يوم، ولكن الفتوش القومي أو الدولي، إن وُجد، فاسد، وقد يسّبب التسمم. ورغم هذا كله، هناك من يراهن على المطبخ العالمي.