يعيش أغلب لبنان المقيم، اليوم، على أوكسيجين التحويلات الخارجية من أبنائه المنتشرين في أنحاء العالم. هي الأموال التي تبخّر بعضها في المصارف أو تلك التي تنتظر مصيرها بين خطط البنك الدولي ووزارة المال وقرارات المصرف المركزي. هي حياة المهاجرين الذين صنعوا لهم مستقبلاً في بلدان غريبة صارعوا فيها الفرص وصارعتهم. بعضهم نجح وتفوّق، وبعضهم عاكسته الرياح. ولكنهم جميعاً كانوا يمدّون يد العون لأهل هنا وأصحاب هناك. وكانوا يستثمرون في الوطن لعلّه يبقى وطناً لهم لا لغيرهم وهم الذين ارتحلوا وأصبحت عودتهم صعبة.
"اللي بيهاجر ما بيرجع" قالتها تلك الأم، وهي تنظر إلى صوَر أبنائها وأحفادها. كانت خائفة أن تموت وحيدة هي التي ظنّت، بعدما أنجبت ما أنجبت، أنّها لن تعرف الوحدة يوماً. هي في لبنان وعائلتها منتشرة في كندا وأميركا وفرنسا. أحفادها لا يعرفون لبنان، مع أنهم يجيدون اللغة بشكل مقبول. ولكنهم لا يجدون ما يربطهم بهذه الأرض البعيدة. في ظلّ كل المآسي التي يعانيها البلد لم يبقَ هناك ما يغري بالعودة إليه ولو على سبيل الزيارة. تلك الأم تخشى أن يموت أحد أولادها في تلك البلاد البعيدة، ويدفن هناك حيث أولاده وزوجته ورفاقه. ربما لن تحضر دفنه، وهي التي دفنتها الوحدة هنا في البيت الذي عرف ولادة الأبناء قبل أن يطيروا إلى ديار الله الواسعة.
أصبح في الستين من عمره، هو الذي سافر قبل نحو 40 عاماً. أسس لنفسه حياة وعائلة وعملاً ساهم في إنقاذ أهله في ظل هذه الضائقة التي تعيشها البلاد. خسر مبلغاً كبيراً من المال كان قد أودعه أحد المصارف، وكان يريده عوناً لتقاعده في تلك القرية الحدودية في الجنوب، على أن يكفيه لزيارة أولاده بين الحين والآخر حيث هم في بلاد العم سام. لم يمر في خاطره أنّه سيخسر جنى العمر، ويضطره ذلك إلى تأجيل تقاعده وتعليق قرار العودة إلى أرض الوطن، ويشغله، في هذه الأيام، الوضع الأمني في الجنوب. فخسارة المنزل الذي بناه هناك ستعني أن قرار العودة لم يبقَ ممكناً.
أبناؤنا يهاجرون بعد أن يئسوا من إمكان تحقيق التغيير الحقيقي على مستوى الوطن والهوية والانتماء.
تتحدث الأرقام عن هجرة عشرات آلاف اللبنانيين خلال السنوات الخمس الأخيرة وأغلبهم من الشباب المنتجين. حين هاجر أجدادنا في زمن السلطنة العثمانية راحوا يبحثون عن فرصة للكسب وللحياة بعيداً من الحروب والمجاعة التي ضربت منطقتنا. آباؤنا في زمن النكبة والنكسة والاجتياحات الإسرائيلية والحروب الأهلية، تركوا منازلهم بعد تهجيرهم من البيوت والقرى، وتحوّل التهجير إلى هجرة من الوطن.
واليوم، أبناؤنا يهاجرون بعد أن يئسوا من إمكان تحقيق التغيير الحقيقي على مستوى الوطن والهوية والانتماء. يهاجرون بعدما فقدوا الأمل وفقدوا الإحساس بالانتماء، وهم، في هذا الأمر، يختلفون عن آبائنا الذين ظل الوطن وطناً يحنّون إليه ويحلمون بالعودة إلى ربوعه. الخوف على الأبناء هو خوف على مستقبل الوطن لا على مستقبلهم.
حين يرتحل المهاجرون عن دنيانا بعدما رحلوا عن الوطن، يزرعون أبناءهم في أرض غريبة في نظرنا، لكنّها أرضهم الجديدة التي أعطت آباءهم ما لم يعطهم إيّاه الوطن الأم. صحيح أن لبنان كان أرض قداسة، ولكن من مرّ وما مرّ بلبنان دفع بالكثيرين من أهله إلى الكفر.
لن نستسلم لواقعنا. مستمرّون في وضع النقاط على الحروف وتسليط الضوء على كلّ خلل في هذا الوطن الصغير، وطن الرسالة والتنوّع والحضارة. مهمة ليست بسهلة، ولكنّها لن تكون أصعب من رحلة المهاجرين الأوائل ولا المهاجرين الجدد في بلاد غريبة نستلهم منها الأمثولات التي تكلّلت بالنجاح ولو انتهت بالدموع حين نقول لهم وداعاً في رحلتهم الأخيرة.