الأزمة التي يعيشها لبنان مُتعدّدة الأبعاد وتشمل الشقّ السياسي والاقتصادي والاجتماعي والمالي والنقدي، ولكنّ أسبابها أيضًا مُتعدّدة، منها الارتباط بالخارج والفساد والطائفية، وقد أدّت هذه كلها إلى السيطرة على النظام من الداخل، مما أدّى إلى سياسة تعطيل شاملة قادر كلّ فريق على ممارستها في كلّ مرّة لا يستطيع تحقيق مصالحه الخاصة.
هذه المُقدّمة ليست بجديدة، إلّا أنّها ضرورية لشرح فشل أيّ إصلاح اقتصادي في الدولة اللبنانية، وأيّ إعادة هيكلة للقطاع المصرفي، وبالتالي الخروج من الأزمة.
أصبح معروفًا أنّ أزمة السيولة التي تجتاح المصارف، سببها الرئيسي تخلّف الدولة عن دفع مستحقّاتها المالية لدائنيها. وبالتالي أصبحت المُشكلة مُشكلة نظامية تشمل كلّ القطاع المصرفي. هناك ثقب في مالية الدوّلة. وهو لا يزال مفتوحًا، وبالتالي أيّ ضخّ للأموال في القطاع المصرفي سيتمّ صرفها إذا لم يكن هناك إصلاحات جذرية في كيفية إدارة الدوّلة ماليًا. وهنا تبرز مُشكلة الأشخاص في المناصب العامّة من أعلى منصب إلى أدنى الهرم. إذ لا يُمكن أيّ شخص تغيير أو تعديل أيّ شيء ما لم يتمّ كسر المنظومة التي تتحكّم بهيكلية الدولة. هذه الهيكلية تجعل تشابك الصلاحيات بين القوى السياسية قاتلة للقرارات والإجراءات التي تصبّ في مصلحة المواطن وتعود بالفائدة على المنظومة بتشعّباتها.
التمسّك بأسماء لتولّي مناصب رئاسية وحكومية ووزارية وغيرها، لا يُعدّل في الوضع القائم. في الواقع أيّ شخص يتسلم منصباً في ظلّ هذا الوضع هو شخص يأتي ضمن تسويات بين القوى السياسية، وبالتالي هو غير قادر على تغيير أيّ شيء سواءٌ على الصعيد السياسي أو الاتصادي أو الاداري أو القضائي... وهذا الأمر بديهي إذ يكفي النظر إلى التاريخ الحديث للبنان لمعرفة أنّ التسويات هي التي حرّكت الواقع القائم (بغضّ النظر في أي اتّجاه).
الخروج من الأزمة الاقتصادية (وهو ما يهمّنا في هذا المقال) يتطلّب مشروعاً كاملاً مُتكاملاً يحمله أشخاص ويُنفّذونه في مواقعهم في هيكلية الدوّلة. وهذا المشروع يهدف بالدرجة الأولى إلى إخراج النظام من سطوة المنظومة من خلال عمل مؤسساتي لا يكون للشخص دور في تحديد مساراته، بل يتم تحديد المسارات من خلال إستراتيجيات على المدى الطويل تضعها الحكومات بناءً على توصيات الإدارات العامّة والمعنيين من اختصاصيين وهيئات اقتصادية ونقابات عُمالية وغيرهم. هذا هو السبيل الوحيد للخروج من القوقعة التي نحن فيها.
ففي الولايات المُتحدة الأميركية حيث النظام رئاسي، نرى أنّ الإستراتيجية العامّة للتطوّر الاقتصادي والإداري والقضائي لا تتبدّل مع تغيير الرؤساء فحسب. بسبب بعض المواضيع السياسية الكبرى يُمكن الولايات المُتحدة الأميركية أن تُغيّر موقفها، ولكن حتى هذا التغيير يدخل ضمن إستراتيجيات تضعها ما يُعرف بـ "الإدارة الأميركية" التي تضمّ عشرات الألوف من الموظّفين الذين يعملون لمجد الولايات المُتحدة الأميركية وليس لمجد الرؤساء الذين يتمّ نسيانهم مع الوقت.
هذا النموذج تُثبته الأرقام إذ نرى إنتاجية العامل الأميركي في ارتفاع مستمر ومستدام بالتزامن مع النّاتج المحلّي الإجمالي. أما في لبنان، فنرى العشوائية في إنتاجية العامل اللبناني التي أصبحت أدنى من إنتاجيته في العام 1987. أمّا النّاتج المحلّي الإجمالي فحدّث ولا حرج بسبب تأرجح العشوائية في النمو الاقتصادي في هامش يتخطّى الأربعين في المئة!
مُشكلة الودائع في القطاع المصرفي تبقى الهمّ الأساسي للمواطن اللبناني، إذ لا يُمكن حلّها بالطرق التي تعتمدها الحكومة
الضرر الناتج عن منهجية العمل القائمة حاليًا في لبنان تمس بمصلحة المواطن ويفقره. فعلى سبيل المثال، وُعِدَ المواطن اللبناني بأنّ دولرة الأسعار ستؤدّي إلى استقرارها ولن يكون هناك ارتفاعات كبيرة. إلّا أنّ ما يحصل هو عكس ذلك، فها هي الأسعار ترتفع من دون منطق ومن دون أيّ حسيب أو رقيب. وما ارتفاع أسعار مياه الشرب التي تبيعها شركات المياه في عبوات من البلاستيك إلى المواطنين سوى مثال على وقاحة التجّار في بعض الأحيان. فسعر العبوة ارتفعت من 200 ألف ليرة لبنانية إلى 250 ألف ليرة لبنانية (أي بنسبة 25%) بشكلٍ مُفاجئ وغير مُبرّر خصوصًا أنّ المياه مُعبّأة في لبنان وعبوات البلاستيك لم تتغيّر. فلماذا هذا الارتفاع ونحن على مشارف شهر رمضان؟ وأين وزارة الاقتصاد والتجارة من هذا الارتفاع؟ لماذا لا تتحقّق من هيكلية التكاليف لهذه الشركات؟ بالطبع غياب العمل المؤسساتي وتدخل المنظومة التي تُسيطر على الإدارة هما السبب الأساسي للسماح بهذه الزيادات في الأسعار.
مُشكلة الودائع في القطاع المصرفي تبقى الهمّ الأساسي للمواطن اللبناني، إذ لا يُمكن حلّها بالطرق التي تعتمدها الحكومة. فمنهجيتها تفصل القطاع المصرفي عن باقي المشكلات، وكأنّ المُشكلة هي مُشكلة القطاع المصرفي وحده، في حين أنّ سياسة الإنفاق والاقتراض التي اعتمدتها الحكومات المُتعاقبة – أو الأجدر القول المنظومة المُتحكّمة بمفاصل الدولة وبتواطؤ مع القطاع الخاص- هي المسؤولة بالدرجة الأولى عمّا وصلنا إليه اليوم.
يبقى السؤال عن كيفية الانتقال إلى عمل مؤسساتي لا يتأثّر بالنفوذ السياسي. في المبدأ هناك وسيلتان لا ثالثة لهما:
الوسيلة الأولى – وهي تغيير الأشخاص في السلطة من خلال الانتخابات النيابية والبلدية. إلّا أنّ هذا الأمر يتطلّب وعيًا كبيرًا عند المواطن وهو أمر غير متوافر حاليًا نظرًا إلى ثقل البعد المذهبي / الطائفي / الحزبي في تكوين آراء الناخبين.
الوسيلة الثانية – من خلال الضغط الخارجي وهذا الأمر يتمّ من خلال حرمان لبنان من الدعم الخارجي بانتظار إجراء الإصلاحات الضرورية، وهذا لم يحصل حتّى الساعة. لذا من المتوقّع أن يستمر التردّي في الواقع الاقتصادي والاجتماعي بحكم أنّ أيّة دولة خارجية لن تُقدم على دفع قرش واحد للبنان من دون تنفيذ إصلاحات تضمن مصلحة الشعب اللبناني وتقضي على الفساد القائم.
في الختام، يحتاج لبنان إلى مُعجزة للخروج من الواقع الذي يعيش فيه، والذي سيُغيّر صورة الكيان اللبناني الذي تميّز منذ ستينيات القرن الماضي بحداثته وديناميكاته وانفتاحه وتطوره. فقد صُنّف لبنان في العام 1963 رابع بلد في العالم من ناحية الإزدهار والرفاهية. فأين نحن اليوم من ذلك الزمن المجيد؟