بينما تعيش سوريا "برج بابل" عسكرياً وأمنياً عبر الانتشار العسكري المباشر لقوى أجنبية على أراضيها، أو امتلاكها قواعد ومواقع عسكريّة أكانت إيرانية أم روسية أم تركية أم أميركية ( تقود تحالفاً دولياً)، وقد بلغ عددها 830 موقعاً مع حلول تموز 2023 وفق دراسة ميدانية نشرها مركز "جسور" للدراسات المختصّ بالشأن السوري، تبقى سماؤها مشرّعة لطائرات التجسّس وغارات الطائرات الحربية وعين الأقمار الاصطناعية لا تفارقها، في حين أن عدد الاغتيالات ونوعها على أرضها يعكسان انكشافها الأمني. فها هي حكومتها تتذكّر أبراج المراقبة التي أنشأها البريطانيون منذ عام 2013 لمصلحة الجيش اللبناني على الحدود السورية. لذا وجّهت وزارة خارجيتها رسالة اعتراضية إلى نظيرتها اللبنانية عبر سفارتها في بيروت تعتبر أنّ هذه الأبراج تشكّل تهديداً للأمن القومي السوري.
من حيث التوقيت، هذه المذكّرة مرتبطة بالعرض الذي حمله وزير الخارجية البريطاني ديفيد كاميرون خلال زيارته الأخيرة لبيروت مطلع هذا الشهر، والقائم على "زيادة أبراج مراقبة في الجنوب"، وفق ما أكد وزير الخارجية والمغتربين في حكومة تصريف الأعمال عبدالله بو حبيب في 25 شباط 2024.
كذلك الأمر من حيث الشكل والمضمون، فبعدما تبيّن أنّ سوريا وجّهت عام 2018 رسالة مفصّلة في هذا الصدد، وتلقّت رداً تقنياً منجزاً من قيادة الجيش اللبناني وفق المعلومات المتداولة، تعمّدت دمشق هذه المرة توجيه الرسالة نفسها علناً ووفق مضمون أجيب عنه سابقاً، لأنّ أيّ تغيير لم يطرأ على وظيفة هذه الأبراج. إن لم تكن هذه المعلومات دقيقة، فيتبدى أن سوريا تعمّدت الخروج بهذه الرسالة إلى العلن عوض السير وفق الآلية القائمة بين البلدين لتوجيه رسائل سياسية. لذا فهذه الرسالة اليوم كانت لتكون لزوم ما لا يلزم لو أنّ منطلقها تقني فحسب، إلّا أنهّا مؤشّر من باب الرسائل المشفّرة من محور الممانعة ردّاً على الطرح البريطاني وعلى مساعي تطبيق القرار 1701.
القلق السوري المستجدّ من فعالية هذه الأبراج تجسسياً - رغم أنّها لا تحمل أي رادارات ومربوطة مباشرة بغرفة عمليات الجيش اللبناني وتشغّلها عناصر لبنانية فقط وفق المصدر المطّلع - نحيله إلى تجربة القلق المشروع لـ"حزب الله" من أبراج العدو الإسرائيلي على طول الحدود اللبنانية جنوباً كونها حكماً نقاط تجسس. فقد أشار الأمين العام لـ"الحزب" السيد حسن نصرالله - تعليقاً على وصف بعضهم لعمليات "الحزب" في الجنوب في المرحلة الاولى بعد "7 أكتوبر" بـ"معركة العواميد" كون أكثرية هذه العمليات استهدفت هذه الابراج - الى أنّ "المقاومة تستهدف تجهيزات إسرائيل الفنّية التي هي عيونها وآذانها وبمختلف الأسلحة".
سوريا تعمّدت الخروج بهذه الرسالة إلى العلن عوض السير وفق الآلية القائمة بين البلدين لتوجيه رسائل سياسية
هذا الموقف الذي أطلقه نصرالله في 3 تشرين الثاني 2023 أعقبه بموقف في 5 كانون الثاني 2024، بشّر فيه اللبنانيين بأنّ "الحزب" دمّر هذه الأبراج تدميراً كاملاً. قال: "نحن نضرب التجهيزات الموجودة على العمود التي تقدّر قيمتها بمئات ملايين الدولارات، ولها سيطرة معلوماتية على جزء كبير من لبنان وقد تمّ تدميرها بالكامل". فهل حال عمى عيون العدو الإسرائيلي وصَمَمُه دون ارتفاع وتيرة مسلسل اغتياله لكوادر "الحزب"؟ في الحقيقة، أن الأبراج، حتى التجسسية منها، أضحت في زمن المسيّرات خطوطاً خلفية بالإمكان الاستعاضة عنها.
الجواب المرجّح من الدولة اللبنانية عن الرسالة السورية هو تكرار ما ورد في ردّ الجيش اللبناني العام 2018. فهل يكتفي محور الممانعة بهذا الجواب وبالشكوك التي زرعتها رسالته حول الأبراج جنوباً وإعطائها الحجج لقطع الطريق على أيّة مبادرات دولية لتعبّد الطريق أمام تطبيق القرار 1701؟
بما أن الشيء بالشيء يذكر، وطالما تذكّرت سوريا الأبراج بعد كلّ هذه السنوات، ليت الدولة اللبنانية تتذكّر بدورها "المجلس الأعلى اللبناني السوري" وأمينه العام نصري الخوري، وتحيل إليه مهمّة تبديد الهواجس السورية، وإن اعتبرت بعض الأطراف، كـ"القوات اللبنانية"، "استحضار المجلس الأعلى اللبناني السوري من عمل الشيطان"، كما أعلن وزيرها ريشار قيومجيان لدى مشاركته في أول جلسة للحكومة في 21 شباط 2019.
فمقدمة خانة "من نحن" على الموقع الالكتروني الرسمي للمجلس الأعلى السوري اللبناني www.syrleb.org تنصّ على أنّ "معاهدة "الأخوّة والتعاون والتنسيق" جاءت لتعبّر عن طبيعة العلاقات اللبنانية السورية المميزة، وعن الروابط التاريخية والمصيرية الأخوية"، وأنّ "تثبيت قواعد الأمن يوفر المناخ المطلوب لتنمية هذه الروابط المتميزة، فإنه يقتضي عدم جعل لبنان مصدر تهديد لأمن سوريا وسوريا لأمن لبنان في أي حال من الأحوال".
كما أن المادة "ح" من مهام "الأمانة العامة" تنص على "متابعة تنفيذ أحكام المعاهدة والقرارات المتخذة بموجبها". كذلك، فإنّ الخوري راكم خبرات طوال ثلاثين عاماً إذ عُيّن بالقرار الرقم (1)، تاريخ 16/8/1993، أميناً عاماً للمجلس الأعلى السوري اللبناني ليكون مسؤولاً أمامه عن حسن قيام أجهزة الأمانة العامة بمهماتها المحدّدة. هو خبير في المسائل الحدودية بين البلدين، وكانت صحيفة "السفير" كشفت في 22 تشرين الأول 2005 عن أنّ الخوري رفع طلب ترسيم الحدود بين لبنان وسوريا إلى الجانب السوري قبل نحو 15 يوماً، وجرى تبادل بعض الأفكار بشأنه، قبل أن يكشف، على هامش اجتماعات اللجنة التحضيرية السورية اللبنانية المشتركة في 12-6-2010 "اتفاق سوريا ولبنان على ترسيم الحدود بينهما انطلاقاً من الشمال مع استثناء مزارع شبعا بسبب وقوعها تحت الاحتلال الصهيوني".
إن حجم جديّة الرسالة السورية يتطلّب الاستعانة بالخوري. وإن لم يتم اللجوء إلى المجلس الأعلى في هذا الظرف الحرج فما الحاجة إلى وجوده.