في الحسابات الدولية، وكذلك الإيرانية، أن "حرب المشاغلة" في جنوب لبنان أعطت، حتّى الآن، ما يكفي من نتائج كي ترتسم معالم التسوية أو الحلّ، وأن المزيد منها مع خطر تحويلها إلى حرب مفتوحة، ليس من شأنه تغيير الشيء الكثير من هذه النتائج، تماماً كما الحرب في غزة، سواء حصلت معركة رفح أو لم تحصل.
صحيح أن مأساة إنسانية خطيرة ستقع في حال نفّذت إسرائيل تهديدها باجتياح رفح، وأن ضحايا بالمئات ستسقط في لبنان مع دمار هائل إذا قامت إسرائيل بعمل عسكري واسع بحجة تثبيت الأمن وإعادة المستوطنين إلى شمالها، لكنّها ستكون خسائر مجّانية إضافية لا تبدّل في أساس الحلول المرتقبة التي يتم رسمها في مطابخ المفاوضات والمساومات الدولية - الإيرانية على وقع رسائل البحر الأحمر وجنوب لبنان وغزة، مع سحب الساحتين العراقية والسورية من "وحدة الساحات" بعدما تبيّن مدى بؤس هذه النظرية واستمرارها كشعار وليس كواقع.
وقد بات واضحاً أن الانهاك المزدوج ل"حركة حماس" وإسرائيل سيؤدّي عاجلاً أو آجلاً إلى حلّ الدولتين حين يجد حكّام تل أبيب أنفسهم معزولين عالمياً إذا استمروا في رفض هذا الحلّ، وليس صعباً أن يُطيح هذا العزل حالة التطرّف الدموي الذي يمثّله نتنياهو وفريقه مهما استند إلى رأي شعبي إنتقامي عارم بعد صدمة "طوفان الأقصى"، بينما ستنتهي خلال بضعة أشهر فرصة ابتزازه الانتخابات الأميركية للضغط على إدارة بايدن.
وقد بات واضحاً أن الانهاك المزدوج ل"حركة حماس" وإسرائيل سيؤدّي عاجلاً أو آجلاً إلى حلّ الدولتين
أمّا في لبنان، فهناك اتجاه براغماتي واضح نحو خفض السقوف وتبريد الرؤوس الحامية بدفع مباشر من طهران، بعدما أجرت مراجعة لمدى قدرتها على المواجهة، وعجزها عن الانتقال من توظيف أذرعها في "المشاغلات" إلى الانخراط مباشرةً في الحرب.
هذه "الواقعية" الإيرانية فرضت نفسها على أداء "حزب الله" الذي بدأ يعضّ على جروحه الثخينة، ولا يتوسّع في ردوده كما تفعل إسرائيل، ناسجاً على منوال مرجعيّته في "الصبر الإستراتيجي" وكظم الغيظ، وعدم ردّها على الاغتيالات والغارات، ولا حتّى على العملية الإسرائيلية في العمق الإيراني لتدمير أنابيب نفط مركزية.
من هنا، إلى أين ستؤدّي هذه "العقلانية" الإيرانية في لبنان؟
ما يمكن تلمّسه من المساعي الأميركية والفرنسية للجم الحرب واقتراح التسويات الحدودية، ومن حركة "اللجنة الخماسية" العربية الدولية في اتجاه الاستحقاق الرئاسي، أن أي طرف عربي أو دولي لا يبحث في منح طهران، وتالياً "حزب الله"، أي ثمن داخلي مقابل الترتيبات الجنوبية، ليس فقط من باب الفصل عن غزة، بل من باب ربط القرار 1701 مع ما سبقه من قرارات دولية لاسيما ال1559 و1680.
وليست استفاقة دمشق على تقديم شكوى طارئة من أبراج المراقبة التي أقامتها بريطانيا للجيش اللبناني على الحدود من عكّار إلى راشيّا لمنع التسلّل والتهريب، سوى استشعار مسبق بهذا الاتجاه الدولي لضبط الحدود اللبنانية السورية، بما يعنيه تنفيذ هذه القرارات الانقاذية من "فكّ الساحات" وتحصين الدولة اللبنانية.
وليس في الترجيحات أن تستطيع إيران التصدّي طويلاً لهذا الاتجاه الواسع نحو ترتيب الوضع اللبناني، مع أنها تحاول الآن اللعب على خلافات افتراضية أو ظرفية بين واشنطن وباريس، وداخل "اللجنة الخماسية"، وعلى خلفية الاستفادة من اتفاقها مع المملكة العربية السعودية، لعلّها تُبعد الكأس المرة عن ذراعها الأولى في لبنان والمنطقة.
لأن أي ترتيب لوقف حرب الجنوب سيفرض سحب "الحزب" إلى شمال الليطاني، يعني عملياً انتهاء وظيفته، ولا يمكن أن ترتد هذه الوظيفة إلى الداخل بشكل سافر، تحت خطورة التسبّب بحرب أهلية لا طاقة لأحد على تحمّلها، وهو مرشّح لدفع ثمنها قبل سواه.
وليس من عالم التخيّلات أن تكون ليونة الرئيس نبيه بري مع "الخماسية" وشروط الاستحقاق الرئاسي بعد استرجاع حصّته وحضوره في الميدان الجنوبي، وكذلك نفور "التيّار العوني" من "الحزب" مع محاولته التقرّب من عين التينة، صدفتَين متزامنتَين، إذ لا يمكن فصلهما عن المأزق الذي تعانيه إيران و"حزبها"، فحين يكون أحد الأطراف مأزوماً أو في مرحلة دفع الثمن، لا يجد كثيراً من الأصدقاء أو الحلفاء ينصرونه أو يتمسّكون به.
وقد سبق وتحدثنا في مقال سابق عن مأزومية "حزب الله" في علاقاته مع سائر المكوّنات، وضرورة عقده جلسات "عصف فكري" ومراجعة شاملة لما آل إليه وضعه.
ويبقى أن دون هذا التوجّه الانقاذي العام، بأبعاده الثلاثة اللبناني والعربي والدولي، مطبّات كثيرة عسكرية وسياسية، فهو ليس مجرّد نزهة أو تسلية بين الأمم، خصوصاً أن إيران تحاول إبطاء دفع الأثمان والخضوع لعملية تشذيب و"قص شَعر" Hair cut لنفوذها وفق ما يتسرّب من المفاوضات، بعد بلوغها حدّ التخمة في التسلّط على العواصم العربية الأربع، وأصبحت أمام معادلة الدفع وليس قبض المزيد.
والمرجّح في نهاية المطاف أن تتغلّب "واقعية" الحسابات للقبول بترشيد الأحجام والأوزان، وترشيق الطموحات، على الاستثمار في الانتصارات الوهمية والعناوين الشعبوية، فينتهي إذذاك استسهال الانتحار.