تتعدّد أسباب ضعف القطاع الزراعي في لبنان، والنتيجة تبقى: تقلّص حجمه عاماً بعد آخر، وتراجع مساهمته في الناتج. الجميع ظنّوا أنّ الانهيار الاقتصادي سيدفع إلى الاعتماد على القطاعات الانتاجية المحلّية، ومنها الزراعية، وسيعزّز من فرص تصديرها للخارج. بيد أنّ "رياح" المشاكل البنيوية في الزراعة وغياب التخطيط والمفاجآت غير المحسوبة سارت عكس ما تشتهي "سفن" المنظّرين.
نظريّاً، كان يفترض بفقدان الليرة اللبنانية 98 في المئة من قيمتها أن يخفّض تكاليف الإنتاج في الزراعة، والمرتبطة تحديداً بأجور اليد العاملة والخدمات التشغيلية. الأمر الذي يزيد من قدرتها التنافسية في الأسواق الخارجية. فترتفع الصادرات وتزداد تدفّقات العملات الأجنبية. ما ينعكس إيجاباً على القطاعات الانتاجية بشكل خاص، وعلى ميزان التجارة وميزان المدفوعات بشكل عام. المشكلة لم تقتصر على اصطدام النظرية الكلاسيكية باعتماد لبنان اعتماداً كاملاً على الاستيراد لتأمين البذور والأسمدة والسموم والمحروقات والآلات... وغيرها الكثير من وسائل الإنتاج التي يُدفع ثمنها بالدولار، إنّما بالمفاجآت من خارج السياق. فكانت البداية مع تعطّل سلاسل التوريد العالمية الذي فرضته الجائحة بالتزامن مع نشوب الأزمة الاقتصادية الداخلية. ومن ثم تفجير مرفأ بيروت؛ البوابة الأساسية لخروج البضائع اللبنانية. لنصل اليوم إلى الحرب الإسرائيلية، وما كبّدته للقطاع الزراعي من خسائر مباشرة وغير مباشرة.
الخسائر المباشرة في زراعة الزيتون
تشير التقديرات الأولية التي أدلى بها وزير الزراعة عباس الحاج حسن لقناة "الجزيرة" أخيراً إلى أنّ "الاعتداءات الإسرائيلية قضت على عشرات الآلاف من الدونمات الزراعية نتيجة القصف المتعمّد بالفوسفور الأبيض. وأظهرت الأرقام تدمير أكثر من 5 آلاف شجرة زيتون، بعضها يمتدّ إلى أكثر من 150 عاماً. وأُبلغ عن خسائر كبيرة في الثروة الحرجية والحيوانية". وبحسب الحاج حسن "سيتطلّب الأمر سنوات لاستعادة الأرقام إلى ما كانت عليه قبل هذه الهجمات".
وفي التبغ
بالإضافة إلى الأضرار الكبيرة التي لحقت بالزيتون، عطّلت الحرب موسم التبغ، ثاني أكبر المواسم الانتاجية في المناطق الحدودية. وبحسب المزارع مصطفى عمّار، فإنّ "القصف المكثّف على القرى، ونزوح 95 في المئة من سكّانها منع المزارعين من تهيئة الأراضي كحراثتها وتسميدها، قبل نقل الشتول وغرسها بين آذار ونيسان المقبلين". وتتوزع زراعة التبغ بنسبة 25 في المئة في محافظة النبطية، و75 في المئة من المناطق والقرى الحدودية مثل عيترون، وميس الجبل، وحولا، ورميش، وعيتا الشعب... مروراً بالقرى القريبة من الساحل كصديقين وغيرها. وستكون زراعة التبغ في هذه المناطق شبه مستحيلة في حال استمرار الحرب إلى أبعد من آذار المقبل، وستخسر نحو 20 ألف عائلة مصدر رزق أساسياً لها"، بحسب عمار.
الاعتداءات الإسرائيلية قضت على عشرات الآلاف من الدونمات الزراعية نتيجة القصف المتعمّد بالفوسفور الأبيض
خسائر التصدير
خسائر القطاع الزراعي لم تتوقّف على الأضرار المباشرة في المناطق الجنوبية، إنّما شملت كلّ الزراعات الشتوية نتيجة امتداد تداعيات الحرب إلى البحر الأحمر. إذ "تراجعت الصادرات الزراعية بنسبة 40 في المئة منذ مطلع هذا العام مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي من جراء أزمة الشحن في البحر الأحمر"، بحسب منبر التيني نائب رئيس غرفة التجارة والصناعة والزراعة في زحلة والبقاع. مؤكّداً أنّ "أكثر أنواع الصادرات تضرّراً هو موسم الحمضيات الذي يصادف موعده في هذه الفترة من العام. إضافة إلى المتبقّي في البرادات من موسمي التفاح والبطاطا". فنتيجة إقفال أبواب المملكة العربية السعودية أمام المنتجات اللبنانية استيراداً ومروراً، توقّف التصدير برّاً إلى كلّ من الإمارات العربية المتحدة، والكويت، والبحرين، وسلطنة عمان. إذ يتحتّم على الشاحنات المرور حكماً بأراضي "المملكة" للوصول إلى وجهتها الخليجية. ولذلك "عمد المصدّرون إلى التخلي عن الطريق البري، واعتماد التصدير بحراً عبر خطّ ميناء بيروت قناة السويس البحر الأحمر وصولاً إلى جبل علي"، يضيف التيني. "ومن هناك توزّع البضائع اللبنانية على الأسوق الخليجية". وعلى الرّغم من تعرّض المنتجات الزراعية للتلف الكلّي أو الجزئي وإمكان وصول صادرات الحمضيات منتهية الصلاحية خاصّة إذا كانت من أصناف "الكلمنتين" و"الأفندي"، رضي المزارعون. إلّا أنّ الظروف لم ترض، فـ "مع بدء العمليات في البحر الأحمر أواخر العام الماضي، ارتفعت الكلفة على كلّ حاوية من لبنان إلى الامارات بقيمة 1400 دولار نتيجة إضافة تأمين مخاطر الحرب"، بحسب التيني. "أي ما يعادل 60 في المئة زيادة على أسعار الشحن. ولم يعد للمصدّرين الزراعيين منفعة في تصدير البضائع. إذ فاقت كلفة تصدير الحاوية الربح الذي يمكن تحقيقه منها". هذا عدا الوقت الطويل الذي تتطلّبه الرحلة في البحر، وتراوح مدته بين 15 و20 يوماً، ، مقارنة بالنقل البري الذي لا يتجاوز 5 أيام إلى مدينة جدة السعودية و7 أيام إلى مدينة الرياض".
ارتفاع كلفة الالتفاف على قرار المنع
"لا بديل من إعادة فتح الطريق البرية عبر السعودية أمام المنتجات اللبنانية، أقلّه للعبور إلى بقية الدول الخليجية"، يؤكّد التيني. فمحاولات بعض المصدرين الالتفاف على دخول الأسواق السعودية من خلال تغيير شهادة المنشأ، وإعادة تحميل البضائع اللبنانية بشاحنات عربية في الأردن أصبحت مكلفة جداً وغير مجدية في أحيان كثيرة. فمثل هذه العملية تكلّف المصدّر من وجهة نظر التيني حوالى 10 آلاف دولار على كلّ مقطورة، في حين كانت تراوح التكلفة في السابق بين 2000 و2500 دولار. أي أنّ التكلفة ارتفعت 7500 دولار على كلّ مقطورة". وتؤدّي هذه الكلفة المرتفعة إلى خسارة الاقتصاد اللبناني 7500 دولار على البراد. وهذا رقم كبير جداً برأي التيني، بحيث إذا احتُسب عدد البرّادات التي تخرج يومياً والبالغة حوالى 50 برّاداً، لستصل الخسائر إلى 375 ألف دولار يومياً".
مرّة جديدة، يدفع الاقتصاد اللبناني بقطاعاته المنتجة والخدماتية الثمن الأعلى لحروب المنطقة. والخسائر هذه المرّة لم تقتصر على الزراعة، إنّما مسّت السياحة، التي تساهم بنحو 26 في المئة من النّاتج المحلّي. وكان تقرير حديث لوكالة ستاندرد آند بورز قد ذكر أنّ تضرّر السياحة في كلّ من لبنان والأردن ومصر "سيؤدّي إلى تراجع نموّ الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في هذه الدول، ويضعف مراكزها الخارجية، رغم أنّ تخفيف ذلك ممكن إلى حدّ ما من خلال الدعم المحتمل من الجهات المانحة الدولية". وتوقّعت الوكالة أن يبلغ الأثر المالي خسارة نسبتها من 10 إلى 70 في المئة في عائدات السياحة في كلّ دولة من الدول الثلاث، وفق سيناريوهات محتملة.