ليس بجدبد القول إنّ المواطن اللبناني يعيش وسط أزمة مُتعدّدة الأبعاد (سياسية، اقتصادية، مالية، نقدية، صحية، تربوية). هذه الأزمة هي نتاج حتمي للمنهجية التي اتبعتها الحكومات المُتعاقبة على مستويين أساسيين: اقتصادي ومالي. فاقتصاديًا، لم تنجح السياسات الاقتصادية (إذا ما كانت موجودة) للحكومات في دفع الاقتصاد نحو النمو المستدام. وأكبر دليل على ذلك التغيّرات الكبيرة في نسب النمو الاقتصادي (أنظر إلى الرسم التوضيحي الرقم 1 - أرقام البنك الدولي )، مع تفاوت بين عامٍ وآخر، وهو ما له تداعيات حتّمية وأكيدة على سعر صرف العملة الوطنية كما على المالية العامّة التي من المفترض أن تتغذّى من النشاط الاقتصادي من باب الضرائب على هذا النشاط.
أمّا على الصعيد المالي، فقد اعتمدت الحكومات المُتعاقبة الاستدانة لتلبية الطلب المتزايد للإنفاق الحكومي على مستوى الأجور وغيرها من النفقات التشغيلية. وبدأت خدمة الدين العام بالارتفاع حتّى وصلت إلى ثلث الموازنة بالتساوي مع أجور القطاع العام. وأخذ العجز في الموازنات المتعاقبة في التراكم حتّى وصل الدين العام إلى 96 مليار دولار أميركي (على أساس الدولار يوازي 1500 ليرة ) نصفه بالليرة اللبنانية والنصف الآخر بالدولار الأميركي. الخطأ الفادح الذي ارتُكب هو قرار الاستدانة من القطاع المصرفي لتمويل هذا العجز ومعه خدمة الدين العام ممّا حرم القطاع الخاص من الأموال بهدف الاستثمار، وبالتالي تمّ ضرب هيكلية الاقتصاد.
اعتمدت الحكومات المُتعاقبة الاستدانة لتلبية الطلب المتزايد للإنفاق الحكومي على مستوى الأجور وغيرها من النفقات التشغيلية
الفوضى السياسية والأحداث الأمنية كان لهما الدّور الأساسي في اتخاذ القرارات السيئة من قبل الحكومات المتعاقبة. فمثلًا، نتيجة الانقسام السياسي في أول عقدين من هذا القرن، تمّ الصرف على أساس موازنات إثني عشرية مع اعتمادات من خارج الموازنة، وهو ما ضاعف الدين العام في الفترة المُمتدّة من 2006 حتّى 2016. وفي العام 2015، بدأت بوادر عجز الحكومة وغياب ملاءتها بالعملة الصعبة بالظهور، ممّا أدّى في العام 2020 إلى إعلان الحكومة وقف دفع دينها بالعملة الصعبة وبالليرة اللبنانية من دون أية مفاوضات مع الدائنين. هذا القرار تُرّجم فورًا بانهيار على كلّ الجبهات الاقتصادية والمالية والنقدية وستستمرّ تداعياته إلى عدّة عقود في المستقبل، وهو ما يجعل منه قرارًا كارثيًا على المواطن.
ولم تكتفِ الحكومات بهذا الأمر، بل عمدت – نتيجة نصائح مخطئة – إلى تذويب دينها العام بالليرة اللبنانية من خلال التضخّم الذي سمحت به كما تُظهره القرارات المُتخّذة في مجلس الوزراء. وأغلب الظّن أنّ المعنيين اعتمدوا على دراسة رينهارت التي تقول إنّ زيادة التضخم تسمح بتخفيض نسبة الدين العام على الناتج المحلي الإجمالي، إلّا أنّ هذه الوصفة لا تصلح للبنان، لأنّها ستؤدّي إلى ضرب الأجيال المُستقبلية بحكم أنّ أيّة مُحاولة مُستقبلية للجم التضخّم، ستُعيد إلى الواجهة الدين العام (أنظر إلى الرسم الرقم 2).
ولم تكتفِ الحكومات بهذا القرار، بل ذهبت أبعد من ذلك من خلال اقتراح مشاريع قوانين لشطب دين الدولة بالعملة الصعبة (مُعظمه بالدولار الأميركي). وهذا يُشكّل خطأ تاريخياً إذ إنّه ومع إعلان الحكومة وقف دفع دينها، كان هذا الدين مُموّلاً بنسبة 85% من أموال المودعين، إذ كان الأجدى بالحكومة التفاوض مع المُقرضين لمحو الفوائد وإعادة هيكلة الدين الداخلي والخارجي.
وبالتالي وقع المسؤولون اللبنانيون في معضلة تراكم الأخطاء الناتجة من أخطاء حسابية دائمة وغير عقلانية. فارتكاب الخطأ يدفع بالمسؤول إلى اتخاذ قرار مبني على القرار الأول، وبالتالي ينتج من ذلك عدة قرارات مخطئة، وهذا كله يُؤدّي إلى تعزيز رأيه مع غياب المنطق الهدفي (Logique Objective) .
ولعب تدخّل القوى الأجنبية وتورطها دور المُحرك الرئيس للصراعات السياسية الداخلية، والتي منعت وتمنع حتّى الساعة أخذ أيّة قرارات اقتصادية إصلاحية. فكلّ فريق يُحاول إشراك قوى خارجية في الشؤون الداخلية اللبنانية بهدف تعزيز موقفه. وهذا الإشراك يتجلى علناً من خلال تدخّلات القوى الأجنبية في شؤون محلية بحت كتعيين موظّف فئة أولى! وعلى هذا الصعيد، يرى الباحث هنري لورنس أنّ الأنظمة الحاكمة في الشرق الأوسط تعمل بهذه الطريقة وذلك منذ عدة قرون. وهو ما دفع الفرقاء اللبنانيين إلى اعتماد لغة التخوين بعضهم بحق بعض، وهو أيضًا أمرٌ موروثٌ من الثقافة العربية إذ أدّت الحرب ضد الأمبريالية إلى تخوين الأنظمة العربية بعضها بعضاً. وهذا ما أوصل الأمور إلى مستوى خطير نشأ عنه عدم الاستقرار في هذه البلدان. فمثلاً، اعتُمِدَت إستراتيجية التخوين بحقّ بعض الأنظمة العربية إذ صُنّفت بأنّها عملاء الإمبريالية، وبالتالي عملاء الصهيونية. وبذلك أصبحت إستراتيجية محاربة الإمبريالية أداة للصراع على السلطة داخل البلدان العربية، وفي نفس الوقت صراعاً ضد التدخل الخارجي. وهذا ما أدى إلى إضعاف الأنظمة العربية. وأصعب ما في الأمر أنّ هذا التخوين أخذ بعداً دينيّاً لـ "شيطنة" الخصم. وكنتيجة للتخوين والشيطنة يُصبح الفريق غير قادر على التفاوض.
ودعّم الزعماء اللبنانيون مواقفهم بمبدأ "الرواية" وهو مفهوم طاغ في الشرق الأوسط، ويعمل كمصفوفة إجراءات (Matrice d’Actions). وسرد التاريخ يُنتج لدى عامة الشعب سلوكاً معيناً تتعزز معه المعارضات ويُؤمّن استمرارها. وقد أفرزت الصراعات السياسية في لبنان روايات أصبحت مصفوفات عمل، إذ يمتلك كلّ فريق روايته الخاصة عن تاريخ لبنان وموقعه.
إذن، وممّا تقدّم، نرى أنّ هناك رغبة قوية لدى الفرقاء في الاستمرار في هذه الحلقة المُفرغة التي لن يخرج منها لبنان إلّا بتبدّل المعطيات الخارجية، والتي ستسمح حينذاك بتوجيه القرارات الداخلية. فعسى أن لا تكون هذه الأخيرة على حساب الشعب اللبناني، وأن لا تمتدّ تداعياتها إلى الأجيال المُستقبلية.