حُرم اللبنانيون منذ بدء الانهيار من "نعمة" الاقتراض. مؤسسات وأفراد عجزوا عن تمويل مشاريعهم ومتطلّباتهم الضرورية، بعدما عوّدتهم المصارف أن "يتديّنوا ليتزيّنوا". انتقل الاقتصاد بلحظة مفصلية في خريف 2019، من ضدٍ إلى ضد. من "الإغداق" في الإقراض على كلّ ما يخطر في البال، إلى "الاضمحلال" حتّى على الأساسيات.
تراجعت قيمة التسليفات للقطاع الخاص من حدود "38296 مليون دولار في أيلول 2019، إلى 8906 ملايين في منتصف العام 2023"، بحسب أرقام جمعية المصارف. مع الإشارة إلى أنّ الرقم الأخير لا يمثْل قروضاً جديدة، إنّما يدلّ على القروض القديمة غير المسدّدة.
أسباب التوقّف عن الإقراض
التوقّف عن الإقراض كلّياً بالعملتين الوطنية والأجنبية من بعد اندلاع الازمة لا يعود لعدّم توفّر الأموال في الجهاز المصرفي، إنّما لثلاثة أسباب رئيسة:
انهيار سعر صرف الليرة، الأمر الذي أفقد العملة الوطنية كلّ وظائفها التقليدية، ومنها أن تكون "وسيلة للدفع المؤجل".
إصدار مصرف لبنان قراراً وسيطاً في آب 2020 يحمل الرقم 13260 يفرض على المصارف قبول تسديد العملاء والأقساط والدفعات المستحقة بالعملات الأجنبية النّاتجة من قروض التجزئة كافة، بالليرة اللبنانية، على أساس السعر المحدّد لتعاملات مصرف لبنان مع المصارف، وبقيمة وسطية تبلغ 1507.5 ليرة لبنانية للدولار الأميركي الواحد.
عدم توحيد أسعار الصرف، والإبقاء على سعر 1507/1515 كسعر صرف رسمي لليرة مقابل الدولار، إلى شباط 2023. ومن ثم اعتماد سعر 15000 ألف ليرة كسعر صرف رسمي. وهو ما يعني إمكان استغلال المقترضين بالعملة الأجنبية لمبدأ "قوّة الابراء" للعملة الوطنية وتسديد قروضهم بالليرة على سعر الصّرف الرسمي، وليس بعملة الاقتراض نفسها أو حتّى بحسب سعر الصرف الحقيقي. وهذا ما لجأ إليه بعض المدينين فسدّدوا ديْنهم بالليرة على سعر الصّرف الرسمي من خلال "العرض والإيداع" لدى الكتاب العدل. وهو ما دفع البنوك إلى الإحجام عن الإقراض.
اقتراح قانون لتحفيز الاقتراض
النتيجة الطبيعية لتعطيل آلة "الإقراض والاقتراض" بما تمثّل من ثقل في النظام الرأسمالي عامّة، وعمل المصارف خاصّة، كانت شل الاقتصاد. ولن يكون من مخرج هذه الدوامة إلّا "صدور قانون يجعل من البنود التعاقدية المدرجة في عقود القرض بالعملة الأجنبية، التي تشترط تسديد قيمة القرض بعملته، بنوداً ملزمة للطرفين دون إمكان التذرّع بنصوص قانوني الموجبات والعقود والنقد والتسليف، من أجل إزالة عائق مهمّ يحول دون عودة الدورة الاقتصادية"، بحسب مقترح القانون الذي يرمي إلى إيفاء الديون الجديدة المحرّرة بالعملة الأجنبية، والمقدّم من نواب تكتّل الجمهورية القوية.
كذلك يدلّ اسمه عليه ينصّ القانون ببساطة على إلزام المدين ايفاء دينه بعملة التعاقد نفسها حصراً، بما في ذلك عن طريق المقاصّة مع حسابات جديدة فقط. وستستخدم في عملية الإقراض هذه الحسابات الجديدة التي اصطلح على تسميتها "Fresh account". وهي كلّ الحسابات بالدولار المشكّلة نقداً بعد تشرين الأول 2019، والتي خصّص اقتراح القانون في مقدّمته بنوداً تعريفية لها واشترط حمايتها. وقد كان الهدف من تقديم اقتراح هذا القانون، بحسب النائب في تكتل الجمهورية القوية الدكتور رازي الحاج، تحقيق أمرين:
الأول، ضرورة ابتكار حلّ شامل للتعافي من خلال تحويل أزمة الخسائر إلى سيولة. إذ لا يمكن تعويض الخسائر في القطاع المصرفي إلّا بأرباح مستقبلية. ولا يمكن خلق السيولة إلّا من خلال عودة القطاع المصرفي إلى لعب دوره الأساسي بتحريك الاقتصاد عبر إقراض المؤسسات والقطاعات وتمويلها.
الثاني، الحرص على أن يكون الإقراض من الودائع الجديدة حصراً كيلا تقوم المصارف بالتصرّف بما تبقى من أموال المودعين، وبإقراض أموالهم إلى أشخاص جدد في الوقت الذي لا يمكنهم الحصول على فتات حقوقهم.
في المحصّلة، تتشابك التعاميم مع القوانين التجارية وقانون النقد والتسليف، في واحدة من أدقّ المراحل التي يمرّ بها لبنان.
المسهّلات والمعوقات
ما يشجع على المضي قدماً بمثل اقتراح القانون، هو التقديرات المصرفية التي تشير إلى وجود ما بين 200 و220 ألف حساب فريش في المصارف، تتجمّع فيها مبالغ تصل إلى مليارَيْ دولار. والأموال المحوّلة إلى هذه الحسابات لم تعد "تغطّ وتطير" كما كان يحدث في بداية الأزمة نتيجة انعدام الثقة كلّياً، إنّما أصبحت تقيم فترات طويلة.
في المقابل، يبرز التعميم 150 واحداً من المعوقات التي تشكّل حائلاً دون الإقراض. خصوصاً أنه يلزم المصرف في المادة الثالثة منه "إيداع ما يوازي 100 في المئة من قيمة الأموال الفريش نقداً لديه، أو لدى مراسليه في الخارج في حساب حرّ من أيّة التزامات". وهو ما يعني عملياً عدم تمكّن المصارف من الإقراض من هذه المبالغ. وذلك من أجل توفير حرّية سحب الأموال، أو تحويلها في أيّ وقت يريده المودع. "كما أنّ التعميم 150 منع المصارف من احتساب أرصدة الحسابات كجزء من سيولتها الخاصة"، بحسب خبير المخاطر المصرفية الدكتور محمد فحيلي. "لأنّه لم يشترط اقتطاع مبلغ منها، كاحتياطي إلزامي بنسبة 15 في المئة. إذ كان همّه طمأنة الخارج، أي المصارف المراسلة قبل الداخل، إلى سلامة هذه الأموال وعدم تعرّضها لأيّ اقتطاع".
القروض والتعميم 165
مقابل التعميم 150 الصادر أول الأزمة، أتى التعميم 165 الذي أنشأ مصرف لبنان بموجبه مقاصّة للحسابات الفريش، بشكل يسمح للمودعين التعامل بها من خلال الشيكات الفريش والدفع بالبطاقات الالكترونية. و"بحكم هذه الخدمات المصرفية التي يجب أن تؤمّنها المصارف تحت أحكام هذا التعميم، يجب أن يكون لديها حسابات لدى مصرف لبنان من أجل تنفيذ المقاصّة، وحسابات لدى المصارف المراسلة لتلبية متطلّبات إصدار بطاقات الدفع الالكترونية واستعمالها خارج لبنان"، بحسب فحيلي. "وتكمن المشكلة في بطاقات الدفع الدائنة أي credit card، والتي تمثّل قرضاً على المودع". ولكي يسمح المصرف بتقديم هذه الخدمة، عليه التأكّد أنّ العملة التي سيُسترجع بها المبلغ هي عملة الاقتراض نفسها. و"هذا لن يتمّ من دون وجود تشريع واضح وصريح"، يؤكّد فحيلي. "وإلّا نرجع إلى مشكلة تسديد القروض بعملة غير التي اقتُرض بها أو بواسطة شيك مصرفي".
الإقراض ممكن من دون قانون.. ولكن
الفصل بين التعميمين 150 و165 يتحدّد بالطريقة التي تبوّب فيها المصارف الحسابات الطازجة. فإن كان التبويب تحت أحكام التعميم 150 لا يمكن للمصرف أن يعطي دفتر شيكات أو بطاقة دفع. ويفترض بحسب فحيلي التبويب تحت أحكام التعميم 165". وبرأيه فإنّ المصارف ممكن أن تعطي القروض مقابل رهونات عقارية أو ضمانات مادية بنفس عملة الاقتراض. بحيث يؤدّي تخلّف المقترض عن السداد إلى الحجز على الممتلكات أو مصادرة الرهونات". ولكن يبقى في الأمر خطورة وإمكانية تحول العملية إلى نزاع قضائي وهو ما تفضّل المصارف تجنبه.
في المحصّلة، تتشابك التعاميم مع القوانين التجارية وقانون النقد والتسليف، في واحدة من أدقّ المراحل التي يمرّ بها لبنان. ولعلّ أكثر ما يثير الخشية هو أن لا يحلّ تحرير سعر الصرف الإشكاليات الكثيرة ومنها إمكانية تسديد قروض الدولار بالليرة لعدّة اعتبارات أهمّها عدم التوقع باستقرار سعر الصرف وإمكانية نشوء السوق السوداء عند أيّ اختلال. وعليه لن يكون من حلّ لتحفيز الإقراض إلّا تقديم ضمانات للمودعين بإعادة الديون بنفس عملة الإقراض.