فجّر تقرير المحقّق الخاص روبرت هور الأسبوع الماضي في شأن قضية احتفاظ الرئيس جو بايدن بوثائق سريّة في منزله عندما كان نائباً للرئيس في ولايتي باراك أوباما، جدلاً واسعاً في الولايات المتحدّة قبل 9 أشهر من الانتخابات الرئاسية، عندما وصف الرئيس البالغ من العمر 81 عاماً، بأنّه يعاني ضعفاً في الذاكرة إلى حدّ أنه غير قادر على تذكر تاريخ وفاة نجله بو بايدن.
الحديث عن ضعف ذاكرة بايدن، أتى في وقت قاتل بالنسبة إلى حملته الانتخابية في مواجهة الرئيس السابق دونالد ترامب الذي سيفوز على الأرجح بترشيح الحزب الجمهوري. وتحوّل تقرير هور إلى مادّة دسمة في وسائل الإعلام وأقلام المعلّقين، التي لم تتأخّر في تقليب انعكاساته على حملة بايدن، في وقت كانت استطلاعات الرأي تعطي تقدّماً لترامب ولو طفيفاً في الولايات المتأرجحة (ميشيغن وبنسلفانيا وويسكونسن وأريزونا وجورجيا ونيفادا)، التي تقرّر عادة من الفائز في الانتخابات الرئاسية. يضاف إلى ذلك، أنّ استطلاعاً مشتركاً لصحيفة "النيويورك تايمز" وكلية سيينا، أجري في تشرين الثاني الماضي، أظهر أنّ 71 في المئة من الناخبين السود في ستّ ولايات متأرجحة يؤيّدون بايدن، بتراجع نسبته 20 في المئة عن انتخابات 2020 حين بلغت نسبة التأييد 91 في المئة، مقابل 22 في المئة يؤيّدون ترامب. كما تراجعت نسبة التأييد لبايدن لدى خريجي الجامعات والعمّال البيض، وهما شريحتان اعتمد عليهما بايدن في انتخابات 2020. وإذا ما أضيف إلى هذا أيضاً تراجع التأييد للرئيس الأميركي في صفوف العرب والمسلمين الأميركيين في الولايات المتأرجحة بسبب دعمه لإسرائيل في حرب غزة، تتشكّل صورة قاتمة عن نسب التأييد المتقلّصة باستمرار.
وطغى استحضار مسألة الذاكرة على الناحية الإيجابية الأخرى من التقرير الذي لم يجد داعياً يستوجب محاكمة بايدن لاحتفاظه بالوثائق السرية، عكس ما هي الحال مع الوثائق التي عثر عليها في منزل ترامب في فلوريدا، والتي يحاكم الرئيس السابق بموجبها. وهذا ما دفع ترامب إلى مهاجمة التقرير والقول بوجود معايير مزدوجة في نظام العدالة بالولايات المتحدة.
تظهر استطلاعات الرأي أنّ 76 في المئة من الأميركيين يرون أنّ بايدن يجب ألّا يترشح للرئاسة بسبب السنوعلى رغم أنّ الديموقراطيين كانوا يجزمون بأنّه لا توجد لديهم خطّة للبحث في مرشح محتمل غير بايدن، فإنّ تقرير هور فتح الباب على مصراعيه أمام النقاش بضرورة وضع خطة "باء" تلحظ البحث عن مرشّح بديل من الآن وحتّى انعقاد المؤتمر الوطني للحزب في 19 آب. وقبل التقرير، لم يكن البحث عن بديل لبايدن أمراً يكتسب صفة الإلحاح. وربما كان النائب عن ولاية مينيسوتا دين فيليبس وحده من تطرّق أكثر من مرّة إلى ضرورة عدم ترشح بايدن. وفيليبس والكاتبة ماريان وليامسون هما الديموقراطيان الوحيدان اللذان يخوضان منافسة غير متكافئة مع بايدن في الانتخابات التمهيدية. وفي الصيف الماضي، سرى كلام كثير عن إمكان ترشح حاكم ولاية كاليفورنيا غافين نيوسم، لكن الأخير أدرك أنّ الظروف غير مؤاتية للدخول في معركة خاسرة.
ولن يكون سهلاً إقناع بايدن بالتنحّي جانباً وإفساح المجال أمام مرشّح آخر. ويصف موقع "بوليتيكو" الأميركي، بايدن بأنّه "شخص ذو اعتداد بالنفس من خلال التجربة التي راكمها منذ انتخابه لعضوية مجلس الشيوخ وهو كان لا يزال في العشرين من عمره، ومن ثم حرم من الوصول إلى الرئاسة مرات عدّة قبل أن ينالها في نهاية المطاف".
بيد أن كثرة زلّات اللسان والخلط بالأسماء تتزايد لدى بايدن. وخير دليل على ذلك، أنّه في المؤتمر الصحافي الذي عقده على عجل كي يدافع عن نفسه ويؤكّد أنّ ذاكرته ممتازة، أخطأ الرئيس باسمي الرئيسين المكسيكي والمصري، ممّا جعله في موقف دفاعي.
وتظهر استطلاعات الرأي أنّ 76 في المئة من الأميركيين يرون أنّ بايدن يجب ألّا يترشح للرئاسة بسبب السن، لا سيما أنّه سيكون أول رئيس أميركي ينهي ولايته الثانية في حال فوزه في تشرين الثاني المقبل، وهو في الـ86.
لا يمكن تجاهل معطى هكذا في معركة شرسة مع ترامب. لكن المعضلة التي تواجه الحزب الديموقراطي، هي أنّ بايدن مقتنع اقتناعاً تاماً بأنّه الشخص الوحيد الذي يمكنه هزيمة ترامب مرة ثانية، وبأنّ ترشّحه هو فعل إيمان منه بأنّ من واجبه حماية الديموقراطية الأميركية، التي يؤكّد أنّها ستكون في خطر إذا عاد الرئيس السابق إلى البيت الأبيض.
ومعضلة أخرى يواجهها الديموقراطيون وهي أنّ نائبة الرئيس كامالا هاريس تعاني من تدن ملحوظ في شعبيّتها، ممّا لا يجعلها بديلاً مناسباً من بايدن إذا قرّر العزوف عن الترشّح. ثمّ إنّ الحزب الديموقراطي يجازف بتنفير الناخبين السود في حال استبعاد هاريس عن لائحة الحزب واختير مرشح بديل من بايدن. ولم تغب نائبة الرئيس عن الجدل الدائر عندما قالت لصحيفة "وول ستريت جورنال"، الإثنين، أنّها مستعدة لتولي القيادة إذا طلب منها ذلك.
وحتّى لو حصل تبدّل في رأي بايدن، فمن غير المرجّح إعلانه قبل الوصول إلى آخر انتخابات تمهيدية للحزب الديموقراطي في 4 حزيران. وكلّ المؤشّرات الحالية تدل على أنّ بايدن في طريقه للحصول على الغالبية الساحقة من المندوبين إلى المؤتمر الوطني الذي سينعقد في مدينة شيكاغو في 19 آب.
ويعتقد المحلّلون أنّ تقرير هور أحدث ضرراً بحملة بايدن لا يقلّ عن الضرر الذي أحدثه مدير مكتب التحقيقات الفيديرالي "إف بي آي" جيمس كومي عندما وجّه اتهاماً إلى مرشحة الحزب الديموقراطي للانتخابات الرئاسية عام 2016 هيلاري كلينتون مفادها أنّها استخدمت الكومبيوتر الخاص بها من أجل إرسال برقيات رسمية عندما كانت وزيرة للخارجية في عهد أوباما.
وإلى الآن، لا تزال كلينتون تتهم كومي بأنّه كان سبباً رئيسياً في خسارتها، بسبب إثارته هذه المسألة على أبواب الانتخابات التي فاز فيها ترامب عامذاك مع أنّ استطلاعات الرأي كانت تصبّ في مصلحتها وعلى رغم حصولها على غالبية الأصوات الشعبية.
وكثيرون في المعسكر الديموقراطي يعتبرون أنّ هور على غرار كومي، وجّه ضربة قوية لحملة بايدن، بدوافع سياسية، ورغم أن وزير العدل الحالي ميريك غارلاند كان من عينه محققاً خاصاً في قضية الوثائق السرية للرئيس بايدن، إلّا أنّهم يذكّرون بأنّ من عيّن هور في منصب رئيس مكتب الادعاء العام لولاية ميريلاند في العام 2018 كان ترامب نفسه. فهل لعب التسييس دوراً في الاتهام؟