أربع سنوات ونيّف مرّت على فقدان رواتب موظّفي القطاع العام قيمتها، والحلول ما زالت تراوح مكانها. الخطأ المبدئي الذي ترتكبه السلطة كلّ مرّة بزيادة الرواتب وبدل النقل في يدها اليمنى، وأخذ الزيادة باليسرى ضرائب ورسوماً، هذا الخطأ سيوصل إلى النتيجة نفسها اليوم وغداً، وبعد مئة عام. ولا تهدّد السلطة بـ "قصر نظرها" الأمن الاجتماعي لأبنائها فحسب، إنّما إمكانية استمرار الدولة وحفظ استقلالها عن الجهات المانحة، سواء أكانت أحزاباً أو شخصيات طائفية داخلية أو حتّى دولاً ومنظمات خارجية.
بالأمس، وعلى مألوف عادتها رحّلت الحكومة من جدول أعمالها بنود تحسين وضع موظّفيها وتفعيل العمل في الإدارات العامّة إلى جلسة الغد. وقد سقط عمداً من لائحة اهتماماتها، المتقاعدون من الأسلاك المدنية والعسكرية الذين انحصرت الضغوط التي مارسوها بإقفال طريق من هنا وإطلاق صرخة يائسة من هناك. وفي المعلومات أن البحث سيتركّز على موضوعين اثنين: البحث في الحوافز التي لا تدخل في صلب الراتب وبدل النقل.
الزيادات على الرواتب وبدل النقل
أقصى ما ستعرضه الحكومة على الموظّفين من حيث الحوافز هو إعطاء ثمانية رواتب، تضاف إلى السبعة المعمول بها حالياً. فيصبح كلّ ما يتقاضاه الموظّف 15 راتباً، حداً أدنى 8 ملايين ليرة. ويضاف إلى الرواتب الستة المعطاة للمتقاعدين 4 رواتب. ولا تدخل هذه الزيادة، كما سابقتها، في صلب الراتب، إنّما تعتبر مساعدة اجتماعية. وقد أُرجئ، بحسب المعلومات، البحث بإعطاء حوافز مالية يومية تراوح بين 1.6 مليون ليرة لموظّفين الفئة الخامسة و 2.8 ليرة للهيئات الرقابية عن كلّ يوم، بحسب ما اقترح مجلس الخدمة المدنية، بشرط تأمين حضور 22 يوماً في الشهر.
أمّا في ما يتعلّق ببدل النقل، فستعرض الحكومة إعطاء 900 ألف ليرة بدلاً من 450 ألفاً عن كلّ يوم حضور فعلي. وصرف النظر عن إعطاء الموظّفين صفائح بنزين يراوح عددها بين 12 صفيحة إلى موظّفي الفئة الخامسة، و20 إلى موظّفي الفئة الأولى.
عدا عدم شمول هذه "المنّة" المتقاعدين الذين ستُضاف إلى رواتبهم 4 معاشات تعطى بالتقسيط على سنوات، فإنّها لن تحلّ مشكلة الموظّفين، ولن تفكّ تعطيل المرفق العام. فقيمة هذه الزيادة ستبقى أقلّ بحوالى 65 في المئة عمّا كان يتقاضاه الموظّفون قبل الانهيار. ولن تتضمّن الزيادة أيّاً من التقديمات الصحية والدوائية والاستشفائية والتعليمية التي كان يحصل عليها الموظّفون سابقاً.
كلفة معيشة الأسرة
في دراسة للدولية للمعلومات، يتبيّن أنّ "كلفة معيشة الأسرة اللبنانية المؤلّفة من أربعة أفراد على الحدّ الأدنى والضروري واللازم، بلغت 52 مليون ليرة شهرياً (582 دولاراً) في القرية، و71 مليون ليرة (794 دولارًا) في المدينة، من دون احتساب الكلفة الصحّية". وعليه، فإنّ الرواتب لن تكفي الأسر لتأمين أبسط متطلّباتها الحياتية من مأكل ومشرب وتسديد فواتير طاقة وهاتف. وإذا اضطرّت الأسرة إلى إدخال أحد أفرادها إلى المستشفى أو زيارة الطبيب وشراء الأدوية فإنّ "الكلفة ستكون باهظة. وتصبح بعشرات ملايين الليرات".
استسهال الزيادات
الحلول غير المجدية المتمثّلة بالزيادة على الرواتب تعتمدها الدولة لأنّها "أسهل، وأسرع، ورنينها في أذن المواطنين أقوى"، بحسب الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين. مع العلم أنّ مفعولها الحقيقي أقصر بما لا يقاس مع توفير الخدمات الأساسية. إذ ستذهب الرواتب سريعاً على الرسوم والضرائب. وللمثال ستخسر الزيادة المنوي إعطاؤها حوالى مليون ليرة شهريا لتسديد فاتورة المياه التي ارتفعت من 900 ألف ليرة في العام 2022 إلى 13.5 مليون ليرة هذا العام". وهذا غيض من فيض التكاليف التي سيتكبّدها المواطنون جرّاء عدم توفّر الخدمات الأساسية من نقل وكهرباء واستشفاء وتعليم من جهة، وزيادة الرسوم والضرائب من الجهة الأخرى. ويكفي، بحسب شمس الدين "إزالة الضرائب التي وضعت أصلاً لتمويل النفقات التشغيلية، وحذف رسوم الخدمات المرتفعة، حتّى تعود إلى الرواتب القيمة الشرائية من دون الاضطرار إلى زيادتها أضعافاً مضاعفة، والتهديد بعودة شبح التضخّم وتفلّت سعر الصرف". وبرأيه "حتّى مع هذا الرفع المحدود للرواتب وبدل النقل مقارنةً بالحوافز التي كانت مطروحة سابقاً، فستؤدّي أيضاً إلى موجة جديدة من التضخم وارتفاع الأسعار". إذ ستتحول الزيادة سريعاً إلى شراء السلع. خصوصاً أنً "الحدّ الأدنى من الغذاء للأسرة يكلّف في الريف 22.3 مليون ليرة شهرياً، يرتفع الرقم إلى نحو 27 مليوناً في المدينة"، بحسب الدراسة عينها.
كلّ زيادة تعطى على الأجور ستؤدّي إلى رفع الضرائب
وفي الوقت الذي تسعى فيه الدولة لإعطاء الموظّفين 900 ألف ليرة يومياً لتعبئة البنزين في سياراتهم والوصول إلى مراكز عملهم، "تبلغ كلفة الكيلومتر الواحد لسيّارة تستهلك 20 ليتراً في كلّ 170 كيلومتراً، نحو 11 ألف ليرة". وعليه، فإنّ المبلغ المعطى يكفي، بحسب أرقام الدولية للمعلومات، لقطع مسافة 81 كلم فقط. هذا الرقم الذي يعتبر عادلاً لفئة من الموظّفين، يعتبر مجحفاً بحقّ فئة أخرى. وهو سيؤدّي في جميع الحالات إلى استمرار استيراد لبنان بنزيناً سنويّاً بما بين 800 مليون دولار والمليار. علماً أنّ معدّل الاستهلاك السنوي يصل إلى 100 مليون صفيحة. الأمر الذي يرتدّ سلباً على الميزان التجاري، ويمثّل استمراراً في الطلب على العملة الصعبة لتأمين الاستيراد، وتالياً تهديد سعر الصرف بالارتفاع. في حين أنّ تشجيع النقل المشترك واعتماد الباصات سواء كانت خاصّة أم عامّة، وإعادة القطار، هذه كلها عوامل مهمة تخفف الضغط على الميزان التجاري وتحمي القدرة الشرائية للرواتب والأجور وتوفّر ما لا يقلّ عن ثلث الحدّ الأدنى للأجور الذي يذهب على النقل.
منطقيْاً، كلّ زيادة تعطى على الأجور ستؤدّي إلى رفع الضرائب. وعلى هذا المنوال سيتسمرّ الاقتصاد في التضخّم من دون أيّة ضوابط أو حتّى رادع. وقد انتبهت الحكومة، بحسب شمس الدين، إلى أنّ "إعطاء بدل الانتاجية الذي وعد به رئيسها مع مفعول رجعي سيؤدي إلى افلاس الدولة وإلحاق الأذى بالاقتصاد، نظراً لحجمها الكبير وغير المنطقي. إلّا أنّ هذه الزيادة مرفوضة من الموظفين ولا تكفي لإعادة تفعيل القطاع العام. وبرأي شمس الدين فإنّ الحلّ الأساسي اليوم يتمثّل في "إعادة هيكلة إدارات الدولة ومؤسساتها والاستغناء عن الفائض في العديد من القطاعات ولا سيما الأمنية منها".
موظفون في الخدمة الفعلية ومتقاعدون من الأسلاك المدنية والعسكرية حوّلتهم السلطة إلى "متسولين" و"قطّاع طرق"، همّهم الأقصى أصبح الحصول على "أجر اجتماعي"، في حين أنّ الإصلاحات الهيكلية وتأمين الخدمات الأساسية لا يغنيان عن الزيادات الوهمية فحسب، إنّما يؤدّيان إلى زيادة القدرة الشرائية للرواتب وانتعاش الاقتصاد وتحقيق كرامة الموظف.