مع اختراق التكنولوجيا لمختلف مفاصل حياة الإنسان، لا تبرح الأسئلة حول حسناتها وسيّئاتها تتناسل. الانقسام عمودي والإجابات لا تعترف بالأبيض والأسود. لكن حين يتعلٌّق الأمر بتأثيرات التكنولوجيا بعيدة المدى، لا يمكن القفز فوقها أو تجاهُلها. والتسمّر أمام الشاشات، على أنواعها، هو أحد أبرز التجليّات التي يصعب الانفكاك منها في عالَم اليوم. عالَم الأطفال تحديداً.
تحليلاً لنتائج 2451 دراسة طالت تبعات استخدام قرابة مليونَي طفل للتكنولوجيات القائمة على الشاشات خلال العقود القليلة الماضية، توصّل فريق دولي من علماء النفس وخبراء الميكانيكا الحيوية إلى خلاصات غير قاطعة. ففي دراسة نُشرت في مجلة Nature Human Behavior، جاءت النتائج مختلطةً بناءً على نوع التكنولوجيا وكيفية استخدامها. لكن ثمة ما كان واضحاً بالنسبة للفريق: في ما عدا الحالات التي يكونوا فيها مصحوبين بشخصٍ بالغٍ، ظهر أن مشاهدة التلفزيون بشكل عام ساهمت في تحقُّق درجات اختبار منخفضة لدى الأطفال المشمولين بالدراسات. وتبيّن أيضاً أن إلمامهم بالقراءة والكتابة تراجع بالمجمل لدى تحليل الوقت الإجمالي الذي أمضوه أمام الشاشات.
اللافت في التحليل أنّ النتيجة غالباً ما عكست تأثيراً سلبياً طفيفاً للشاشات على من خضعوا للاختبارات. لكن دراسات مركَّزة أخرى تُناقِض ذلك بالكامل. ففي آب الماضي، حذّرت دراسة قُدّمت في مؤتمر الجمعية الأوروبية لأمراض القلب من أنّ السماح للأطفال بمشاهدة التلفزيون باستمرار ولفترات طويلة يمكن أن يؤدّي إلى مشاكل بالقلب بعد سنوات. واكتشف الباحثون أنّ الخمول في مرحلة الطفولة وصولاً إلى سنّ البلوغ أظهر ارتباطاً بتضرُّر القلب، بغضّ النظر عن عوامل مؤثّرة أخرى مثل الوزن وضغط الدم.
فمن خلال تتبُّع 766 مشاركاً (55% منهم من الفتيات) منذ العام 1990، ظهر أنه في مقابل كل دقيقة خمول إضافية بين سنّ 11 و24 عاماً، كان ثمة زيادة بواقع 0.004 غرام/متر (غرام نسبةً للطول) في كتلة البُطين الأيسر للقلب لدى بلوغ الأطفال عمر 17-24 عاماً. وفي الزيادة تلك ما يضاعِف من احتمالات الإصابة بأمراض القلب والسكتات الدماغية والوفاة، بحسب الدراسات.
ثم أنّ لفرملة تنمية المهارات الأساسية لدى الأطفال نصيباً من التسمّر المفرط أمام الشاشات. فوفقاً لدراسة حديثة لجامعة دريكسيل نُشرت في مجلة JAMA Pediatrics، يرتبط الوقت الذي يمضيه الرضّع وصغار السنّ أمام الشاشات بمخاطر على صلة بتطوير سلوكيات المعالجة الحسّية غير النمطية. وتشمل قدرة الجسم على تفسير المدخلات الحسّية وإنتاج الاستجابة المناسبة.
البحث استخدم بيانات من دراسة الأطفال الوطنية الأميركية. وذكر واضعوه أنّ الأطفال الذين أمضوا وقتاً أطول أمام الشاشة قبل سنّ الثانية كانوا أكثر عرضة لتطوير هذه السلوكيات قبل سنّ الثالثة، مع احتمال أن تتفاقم الحالة مع زيادة ذاك الوقت يومياً. فقد قام الفريق بتحليل بيانات تعود للسنوات 2011-2014 شملت 1471 طفلاً (نصفهم ذكور) على مستوى الولايات المتحدة. واستندت قياسات التعرّض للشاشة في مراحل عمرية مختلفة (12 و18 و24 شهراً) إلى إجابات محدَّدة من ذوي الأطفال ومقدّمي الرعاية.
أخذت الدراسة في الاعتبار عوامل مختلفة مثل العمر، والولادة المبكرة، والمستوى العلمي للأهل ومقدّمي الرعاية، والعرق/الإثنية، ومشاركة الطفل في أنشطة حركيّة من عدمها. وأتت النتائج المسجّلة في عمر الـ33 شهراً على الشكل التالي: ارتبط أي تعرُّض للشاشة في عمر 12 شهراً بزيادة احتمال نشوء سلوكيات متّصلة باضطراب التكامل الحسّي بنسبة 105%. وزادت كلّ ساعة إضافية يومية في عمر 18 شهراً من احتمالات نشوء سلوكيات مرتبطة بتجنُّب الإحساس وباضطراب التكامل الحسّي بنسبة 23%. وارتبطت كلّ ساعة إضافية في عمر 24 شهراً بزيادة بنسبة 20٪ في احتمالات نشوء سلوكيات تجنُّب الإحساس.
علماً بأن مجلة JAMA Pediatrics كانت قد نشرت في وقت سابق دراسة مفادها أنّ الأطفال الذين يقضون ما بين ساعة إلى أربع ساعات أمام الشاشات يومياً كانوا أكثر عرضة لتأخُّر النموّ، خصوصاً في مهارات حلّ المشاكل والتواصل، لدى بلوغهم العامَين. وشملت الدراسة مجموعة من 7097 طفلاً وأمّهاتهم من ضمن مشروع توهوكو الطبي الياباني الضخم بين 2013 و2017.
التفت الباحثون إلى المدة الزمنية التي يقضيها الأطفال أمام الشاشات في عمر السنة. وعمدوا إلى تقييم أدائهم في فئات النمو - مثل التواصل، والمهارات الحركيّة الدقيقة، والمهارات الشخصية والاجتماعية، ومهارات حلّ المشاكل في عمر السنتين والأربع سنوات. وظهر، مثلاً، أنّ الأطفال الذين يقضون أربع ساعات أقلّه يومياً أمام الشاشات كانوا أكثر عرضة بثلاثة أضعاف لخطر تأخُّر تبلوُر مهارات التواصل وحلّ المشاكل.
وهذا ليس بغريبٍ. فبحسب العلماء، أكثر ما يتطوّر الإنسان – ككائنٍ اجتماعي - من خلال التفاعل المتبادَل. إذ يتعيّن أن تتعرّض أدمغتنا للمحفزّات التي من شأنها توجيه سلوكنا وتلقيننا كيفية التفاعل الصحيح مع المحيط. وهكذا، يواجِه الطفل الذي لا يكتسب مهارات اجتماعية مناسِبة لعمره صعوبة في تطوير العلاقات والحفاظ عليها تتظهّر لاحقاً على شكل نزعات انطوائية واضطرابات عقلية.
تكنولوجيات الشاشات – ورأس حربتها وسائل التواصل الاجتماعي - تعمل باطّراد على لجْم اكتساب هكذا مهارات. فثمة أبحاث - تلجأ إلى تصوير الأدمغة ثلاثي الأبعاد - تُظهر أن الإمعان في الممارسات تلك يرتبط بتراجع مستوى المادة البيضاء التي تحسّن القدرات الإدراكية المعرفية. في المقابل، يسهم قضاء وقت طويل في الطبيعة، مثلاً، بارتفاع منسوب المادة الرمادية في المناطق المرتبطة بالذاكرة ومعالجة المعلومات.
بالمحصّلة، يكون الدماغ البشري في السنوات الأولى من عمر الإنسان أشبه بإسفنجة يحدّد محتواها مسارات مستقبلية كثيرة. وتقليص الوقت الذي يمضيه الأطفال أمام الشاشات إلى الحدّ الأدنى أساسٌ في تثبيت مسارات وحرْف أخرى.