قال رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي في كلمته في نهاية جلسة مناقشة موازنة العام 2024 يوم الجمعة الماضي، إنّ الحكومة تمتلك في حسابها الرقم 36 في المصرف المركزي 100 تريليون ليرة لبنانية (حساب الليرة) ومليار دولار أميركي (حساب الدولار)، منها 150 مليون دولار أميركي كاش و850 مليون دولار أميركي على شكل لولار. استخدام الرئيس ميقاتي هذه الأرقام أتى في إطار الدفاع عن أداء الحكومة أمام المجلس النيابي، الذي أطلق سهامه (من كلّ المكونات) على أداء الحكومة التي هي حكومة تصريف أعمال وغير خاضعة للمحاسبة عملًا بالدستور.
في الواقع، وكما سيُظهر هذا المقال، أن هذه الأموال التي تكلّم عنها رئيس الحكومة هي أموال غير قابلة للاستخدام تحت طائلة تفلّت سعر صرف الليرة مُقابل الدولار الأميركي.
مصرف لبنان والاحتياطات من العملات الصعبة
تُشير أرقام المصرف المركزي إلى أنّ احتياط مصرف لبنان من العملات الصعبة انخفض بقيمة 1.08 مليار دولار أميركي من 10.42 مليار دولار أميركي في نهاية تشرين الثاني 2022 إلى 9.37 مليار في نهاية تشرين الثاني 2023. هذا الانخفاض بلغ الحد الأكبر مع وصول الاحتياط إلى 8.73 مليار دولار أميركي في تموز 2023 ليُعاود الارتفاع في الأشهر التي تلت. وقبل تحليل هذه التغيّرات، يجدر ذكر أنّ ما يُسمّى احتياطات بالعملات الصعبة (المادة 69 من قانون النقد والتسليف تتحدّث عن موجودات بعملات صعبة) تحوي الأموال الخاصة بمصرف لبنان، بالإضافة إلى الاحتياطي الإلزامي (أي أموال المودعين) وأموال الدوّلة وأطراف أخرى.
في 12 آذار 2023، بلغ سعر صرف الدولار الأميركي 143 ألف ليرة في السوق السوداء. هذا السعر أتى نتيجة المُضاربة الشرسة التي تعرّضت لها الليرة. وكان الاعتقاد السائد آنذاك أنّ الليرة بدأت مرحلة انهيار من دون رجعة. إلّا أنّ حاكم المصرف المركزي السابق أبدى في بيان استعداده لشراء الليرات على سعر 90 ألف ليرة للدولار، وذلك بموجب التعميم 161. وبالنظر إلى احتياط مصرف لبنان نرى أنّ المصرف المركزي أنفق 1.18 مليار دولار أميركي بين نهاية شباط وتمّوز 2023، وهو ما يعني أنّ قسماً من هذا الاحتياط ذهب إلى سحب الليرة من السوق، حيث انخفضت الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية 24.8 تريليون ليرة من أصل 76 تريليوناً في شباط 2023، في وقت سمحت الحكومة بدولرة الاقتصاد بموجب قرارات وزراء الاقتصاد، والاتصالات، والطاقة. وبالتوازي، ارتفعت وتيرة سحب الليرة من التداول من باب الضرائب والرسوم والفوترة التي فُرِض دفعها بالليرة وبالكاش.
أموال لا يُمكن استخدامها!
نجح المصرف المركزي (من خلال التعميم 161) والحكومة اللبنانية (من خلال دفع الضرائب والفواتير كاش) في امتصاص الليرة اللبنانية من التداول لمصلحة الدولار الأميركي الذي شقّ طريقه في المعاملات التجارية بشكلٍ سريع وعميق. وتالياً انكفأت الليرة عن خدمة الاقتصاد واُستعيض عنها بالدولار الأميركي. وبالنظر إلى ودائع القطاع العام لدى المصرف المركزي، نرى أنّها بلغت 176.81 تريليون ليرة لبنانية حتى نهاية تشرين الثاني 2023. الجدير ذكره أنّ رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ذكر في تصريح أن هناك مليار دولار أميركي (150 مليوناً منها كاش) ضمن هذه الودائع و100 تريليون ليرة (حتى نهاية كانون الأول 2023). وإذا ما اعتبرنا أنّ مداخيل الحكومة 22 تريليون ليرة شهريًا، فهذا يعني أنّ هناك 88 تريليوناً من أصل 176.81 تريليون ليرة ودائع القطاع العام لدى مصرف لبنان حتى نهاية تشرين الثاني 2023. والباقي، أي 88.81 تريليون، هو بالدولار الأميركي، أي ما يوازي 992.24 مليون دولار أميركي، منها 150 مليوناً كاش فقط.
ماذا يعني هذا الأمر؟ وهل يُمكن القول إن الحكومة نجحت في إعادة التوازن إلى ماليتها العامة؟
الجواب، بدون أدنى شكّ، هو أنّ الحكومة لا يُمكنها استخدام الأموال بالليرة وجلّ ما تستطيع التصرّف به هو 150 مليون دولار أميركي كاش، وقسم من الأموال بالليرة. ويعود سبب عدم قدرة الحكومة على استخدام الكتلة النقدية بالليرة إلى واقع أنّ أيّ ضخّ لهذه الأموال في السوق سيؤدّي حكمًا إلى ضرب سعر صرف الليرة، الذي حاول المركزي والحكومة على مدى أشهر السيطرة عليه ونجحا في ذلك من خلال سحب الليرة من التداول.
من هذا المُنطلق، لا يُمكن القول بأيّ شكلٍ من الأشكال إن الحكومة نجحت في السيطرة على المالية العامة حتّى ولو أنها تمتلك رصيدًا هائلًا بالعملة اللبنانية، وذلك بحكم أنّ على الحكومة نفقات بالعملة الصعبة لا تُغطّيها موجوداتها من الكاش من هذه العملة.
إنّ إقرار موازنة العام 2024، لا يكفي للخروج من الأزمة ولا يُشكّل حلًا للأزمة
إنّ اقتصاد الكاش الذي تطوّر بشكلٍ كبيرٍ في السنوات الماضية، أصبح يُشكّل خطرًا على الدولة اللبنانية، وعلى اقتصادها وسمعتها في العالم. وتالياً، فإنّ إعادة هيكلة القطاع المصرفي، بالإضافة إلى القطاع العام بشقّيه المؤسسي والبشري، هي ضرورة لكي تستطيع الحكومة تنشيط الاقتصاد الرسمي وفرض ضرائب على هذا النشاط تسمح لها بتغطية نفقاتها بالعملة الصعبة.
إنّ إقرار موازنة العام 2024، على الرّغم من أهميته في عملية انتظام المالية العامّة، لا يكفي للخروج من الأزمة ولا يُشكّل حلًا للأزمة التي تعترض لبنان وماليته العامة في الأشهر المقبلة. وباعتقادنا، يُمكن اعتبار هذا الأمر كإبرة مورفين في جسد الاقتصاد الذي يُعاني آفة سرطان – عنيت بذلك الفساد الذي يأكل الأخضر واليابس سواء إتتصادياً أو مالياً أو نقدياً. ونجزم أنّه من دون محاربة هذا الفساد عبر سنّ القوانين وتطبيقها، لا يُمكن بأيّ شكلٍ من الأشكال الخروج من هذه الحلقة المُفرغة التي يقع فيها لبنان. وسيخسّر لبنان حكمًا موقعه ودوره كحاضن لشبابه الذين يُهاجرون بمئات الألاف بحسب ما تُظهره آخر الأرقام. وهو ما يعني أنّه على هذه الوتيرة، سيكون من الصعب لاحقًا إيجاد يد عاملة كفوءة قادرة على خدمة الاقتصاد، وهو أصعب تحدٍ بانتظار الاقتصاد اللبناني والكيان اللبناني إذا لم تُصحح الأمور اليوم قبل الغد.