لكلّ مكوّن سياسي في لبنان عموماً نهج ونمط ومصطلحات ومفردات أشبه بخارطة جينية DNA، تعكس جذوره وخصاله وطباعه، ومن خلالها يمكن فهم ممارساته. مقولة "أنا وحدي أقرع جرس خطورة استمرار الشغور" التي وردت ضمن مواقف سياسية عدّة لرئيس "التيار الوطني الحر" النائب جبران باسيل - في مقال صدر يوم السبت 20 كانون الثاني 2024 تحت عنوان "باسيل: لن أنتخب فرنجية في أي وقت" - أبعد من اللحظة السياسية الآنية وتعقيداتها، وتعكس نهجاً عونياً مستداماً يجمع بين "الأبوّة واليتم... التنكّر والإنكار".
فلطالما اعتمد الرئيس المؤسس لـ"التيار" العماد ميشال عون إعلان احتكار أبوّة أمور عدّة من جهة،ً وادّعاء اليتم في رفع لوائها والدفاع عنها من جهة أخرى. مارس الإنكار بوجه من شاركوه في هذه الأبوّة أو كانوا هم الأساس في حين أنه هو فقط من الورثة. كما مارس التنكّر في بعض الأحيان.
ادعّى عون في 14 آذار 1989 أبوّة حرب تحرير لبنان من الجيش السوري وأنكر كلّ تضحيات المقاومة اللبنانية عسكرياً، وعلى رأسها، سياسياً، الجبهة اللبنانية. سعى على سبيل المثال الى إسقاط شعار "إعرف عدوّك... السوري عدوّك" الذي رفعته "المقاومة اللبنانية" من الذاكرة الجماعية وطمس المعارك التي خيضت بوجه الجيش السوري من بلّا عام 1977 وحرب المئة يوم في الأشرفية عام 1978 إلى معركة قنات عام 1980 وحرب نيسان في زحلة عام 1981.
كما ادّعى عون بعد 13 تشرين 1990 أبوّة المقاومة بوجه النظام الأمني اللبناني–السوري، وتنكّر جمهوره مراراً لمقاومة الآخرين الذين دفعوا فاتورة دموية. كما ادّعى أبوّة "قانون محاسبة سوريا" الذي أقرّه الكونغرس الأميركي عام 2003 وأنّه "عرّاب" القرار الأممي المفصلي 1559 عام 2004، وتنكّر لدور الأب الحقيقي لكليهما وهو "لوبي لبناني" في الولايات المتحدة يجمع سياسيين أميركيين من أصل لبناني مع أحزاب المعارضة اللبنانية السيادية.
ادّعى عون بعد 13 تشرين 1990 أبوّة المقاومة بوجه النظام الأمني اللبناني–السوري
ادّعى بعد "ثورة الاستقلال" عام 2005 أنّه يتيم في مواجهة "المخلّفات السياسية" للحقبة السورية، فشنّ هجوماً شرساً على "الحلف الرباعي" قبل أن يكون بعد أشهر شريكاً في الحلف الثنائي مع "حزب الله" عبر اتفاقية "مار مخايل" التي وقّعت في 6 شباط 2006. كما ادّعى أبوّة استرداد حقوق المسيحيين ورفع شعار "ردّينا الحق لصحابو" عقب "اتفاق الدوحة" واعتماد قانون 1960 الانتخابي قبل أن يتنكّر له ويدعو لاعتماد "القانون الأرثوذكسي". كذلك ادّعى أبوّة "الإصلاح والتغيير" واليتم في معركتها طوال عهده. رفع كتاب "الإبراء المستحيل" حيناً وتنكّر له أحياناً بحسب بورصة علاقته بـ"تيار المستقبل". حتّى أنّه ادّعى أبوّة "لبنان دولة نفطية" وكاد يتنكّر لفضل الله بوجود ثروة طبيعية ولمساعي الآخرين عبر السنين.
وها هو اليوم خلف عون على رأس "التيار" النائب جبران باسيل يدّعي أنه يتيم في "قرع جرس خطورة استمرار الشغور"! كأنّ التحذير من مخاطر الشغور ليس بنداً مستداماً في عظات سيد بكركي البطريرك مار بشارة بطرس الراعي ومتروبوليت بيروت المطران الياس عودة! كأن لا خماسية دولية ولا حركة مكّوكية لموفدين - من أبو فهد إلى لودريان - إلى بيروت بحثاً عن سبل وضع حدّ لهذا الشغور! ويتنكّر لمواقف أفرقاء كثر حذّروا من مخاطر الشغور حتّى قبل وقوعه.
بصمة "الأبوّة واليتم... التنكّر والإنكار" دامغة في نهج "التيار الوطني الحر"، ومفاعيلها السلبية تنفّر الحلفاء قبل الأخصام. فاحتكار الأبوّة يعكس فوقية ما وادّعاء اليتم يستجدي مظلومية ما. أمّا التنكّر لمواقف الآخرين ومساعيهم أو حتى نضالاتهم، فهو إجحاف سافر، في حين لا جدوى من الإنكار في عصر الصوت والصورة.