تنكبّ الهيئة العامة للمجلس النيابي هذا الأسبوع على دراسة مشروع موازنة العام 2024، بعدما أقرّت لجنة المال والموازنة – الواسعة التمثيل – مجموعة تعديلات شملت صيغة المشروع كما أرسلته الحكومة. وإذا كانت التوقّعات أن يتمّ إقرار الموازنة في الهيئة العامّة بصيغتها المُعدّلة، يُطرح السؤال: ماذا ينتظر المصرف المركزي وحاكمه بالإنابة من هذه الموازنة؟
قبل الردّ على السؤال، يجب معرفة أنّ قانون مشروع الموازنة هو أهمّ مشروع يُقرّ سنويًا في المجلس النيابي، وقد خصّه الدستور بعدّة مواد عن آلية الإقرار وشروطه والمُهلّ الدستورية، مُدعّمة بقانون المحاسبة العمومية الذي يتحدّث عن التبويب وكيفية الصرف.
إقتصاديًا، يُعتبر قانون الموازنة عنصرًا أساسيًا في مجال الماكينة الإقتصادية وفي مجال الأسواق المالية والتأثير على سعر الصرف، لما للمالية العامّة من وزن في الاقتصاد. فعلى سبيل المثال، شكّل حجم الدولة في لبنان أكثر من 32% من حجم الاقتصاد اللبناني قبل أزمة العام 2019، لينخفض إلى أقلّ من 10% بعد الأزمة. أمّا على صعيد الاستثمارات العامّة، فإنّ حجم الإنفاق الإستثماري الحكومي لم يتعدّ الـ 6% في أحسن الأحوال.
ماليًا، تأثير المالية العامة كبير من باب الدين العام الذي يتمّ تمويله من الأسواق (عالميًا) أو من القطاع المصرفي (كما حدث في لبنان). هذه الأموال ما كانت لتذهب إلى الاستثمارات الاقتصادية لو لم تقترضها الدولة. أضف إلى ذلك أنّ حجم الدين العام يؤثّر على حجم الضرائب المُستقبلية بحكم المُعادلة المالية التي تنصّ على: إصدارات سندات الخزينة الجديدة + الضرائب والرسوم = خدمة الدين العام + الإنفاق العام. وفي حال لبنان، لم يعد هناك من إصدارات جديدة، ولا هناك دفع لخدمة الدين العام باستثناء القروض الثنائية والمُتعدّدة الأطراف. وتاليًا الضرائب والرسوم الجديدة في موازنة العام 2024 هي لتغطية الإنفاق العام. هذا التناسي "غير المسؤول" لشطب الديون (داخلية بمعظمها) يضرب القطاع المصرفي ومن خلفه الودائع المصرفية ومعها صدقيّة الدولة اللبنانية. على هذا الصعيد، يطرح موضوع الإنذار الخطّي الذي وجّهته مجموعة الحبتور إلى الحكومة اللبنانية لاسترداد أموالها الاستثمارية في لبنان، والخاضعة لإتفاقيات ثنائية بين الدولة الإمارتية والدولة اللبنانية، موضوع صدقيّة الدولة اللبنانية أمام إلتزاماتها. فتملّص الحكومة من التزاماتها يعني انسحاب الاستثمارات الأجنبية المباشرة وانعدامها في المدى المتوسّط إلى البعيد. وللتأكيد على مدى أهمّية هذا الأمر، يُذكر أنّ الاقتصاد التركي شهد نموّه التاريخي بفضل الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي وصلت إلى أكثر من 20% من الناتج المحلّي الإجمالي! إذًا، حتّى لو ربحت الحكومة الصراع ضد مجموعة الحبتور، فإنّها بدون أدنى شكّ ستخسر الاستثمارات، ومعها النمو الاقتصادي الناتج عنها والضرائب الناتجة عن هذا النمو. وفي ما يتعلق بمشروع قانون موازنة العام 2024، نرى أنه لا يُعالج بأيّ شكلٍ من الأشكال مُشكلة الدين العام، ولا مُشكلة الودائع المصرفية التي موّلت هذا الدين.
أمّا نقديًا، فالمعروف في علم الاقتصاد أنّ لدين الدوّلة تأثيرًا سلبيًا على سعر صرف العملة الوطنية. وتاليًا كلمّا ارتفع الدين العام ارتفع احتمال تعثّر الدولة، وهو ما يضرب العملة. هذا بالضبط ما حصل مع لبنان في الأعوام الماضية. إذًا، مع عدم حلّ مُشكلة الدين العام ومن خلفها مُشكلة الودائع المصرفية، ما هو مصير الليرة اللبنانية؟ الجواب أتى من الحاكم السابق للمصرف المركزي ومُستمرّ هو نفسه مع الحاكم بالإنابة الحالي، ألا وهو سحب العملة من التداول ودولرة الاقتصاد التي أقرّها وزراء حكومة تصريف الأعمال. ممّا يعني أنّ العملة لم تعد تخدم الاقتصاد بل أصبحت سلعة لا أكثر ولا أقلّ.
التآكل الاقتصادي والمالي مُستمر خلال العام الجاري إلى أن يُعثر على مخرج سياسي يُعيد تشكيل السلطة التنفيذية
من هذا المُنطلق، نعود إلى السؤال الأساسي: ماذا ينتظر المصرف المركزي من إقرار مشروع موازنة العام 2024؟ بالطبع ينتظر إقرار موازنة العام 2024 لتوحيد سعر الصرف، ومعرفة حجم الإنفاق الحكومي وكيفية تمويله لما لهذا الأمر من ثقل وتداعيات على سعر الصرف. المفاجأة أتت من رئيس لجنة المال والموازنة النائب إبراهيم كنعان الذي قال في مقابلة تلفزيونية إنّ هناك عدّة أسعار صرف في مشروع موازنة العام 2024. فأيّ سعر صرف سيعتمد المركزي الذي يعتبر أنّ تحديد سعر الصرف هو من مهام الحكومة (وهذا حق)؟
اليوم، ومع غياب العملة عن خدمة الاقتصاد اللبناني، فأغلب الظنّ سيكون سعر السوق – أو بالأحرى سعر منصّة بلومبرغ – هو السعر المُعتمد. هذا السعر الذي من المتوقّع أن يُبصر النور قريبًا مع طلب حاكم المصرف المركزي بالإنابة وسيم منصوري من المصارف والشركات المالية المُهتمة بصناعة السوق، من الاشتراك في منصّة بلومبرغ لخدمة البائعين والشارين لليرة اللبنانية، لن يؤثّر كثيرًا على مجريات الأمور نظرًا إلى أنّ العملة لم تعد تخدم الاقتصاد، ونظرًا إلى أنّ مُشكلة الدين العام ومُشكلة الودائع المصرفية لم تُحلّ بعد. ويدعم هذا الخيار، الرأيُ الصادر عن الهيئة التشريعية التي اعتبرت سعر صرف السوق هو السعر الواجب اعتماده.
إذًا، كما سبق أن ذكرنا، لن يُغيّر سعر الصرف في مجريات الأمور باستثناء تخفيف الاقتطاع من ودائع المودعين من باب سحبها على سعر صرف السوق بدل سحبها على سعر صرف 15 ألف ليرة لبنانية. كذلك يتعيّن ذكر نجاح حاكم المركزي بالإنابة بضغطه على السلطة السياسية لإقرار موازنة العام 2024، من أجل معرفة حجم الإنفاق الحكومي وكيفية تمويله، بعدما رفض الحاكم بالإنابة تمويله من خارج إطار قانون يُقرّ في المجلس النيابي.
في الختام، وعلى الرغم من أهمّية إقرار مشروع موازنة العام 2024 في مواعيده الدستورية، يجب القول إنّ السلطة عجزت حتّى الساعة عن مُعالجة المشاكل الأساسية التي تعترض الخروج من الأزمة – عنيت بذلك الدين العام والودائع المصرفية. وعليه، فإنّ التآكل الاقتصادي والمالي مُستمر خلال العام الجاري إلى أن يُعثر على مخرج سياسي يُعيد تشكيل السلطة التنفيذية بشقّيها رئيس الجمهورية والحكومة، وإلى أن تُقرّ الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة، وهو أمر مُستبعد حاليًا، بسبب ما تمرّ به المنطقة من تصعيد عسكري وسياسي سيكون له، حكمًا، تأثير كبير على الواقع الاقتصادي اللبناني، من باب تراجع السياحة وتراجع تدفّقات رؤوس الأموال وتحاويل المُغتربين.