قبل قرون، وجد الأقدمون طريقة يحفظون بها الطعام، لتناوله سليماً في وقت لاحق. آلية الصمود هذه التي عرفت لاحقاً بـ"المونة"، عادت لتطلّ على اللبنانيين من شبّاك الأزمة الواسع، بعدما لفظوها من باب "التفرنج" والاعتماد على استيراد السّلع الأجنبية المصنّعة. إذ فرضت صدمة الانهيار في العام 2019، مع ما رافقها من ارتفاع هائل في الأسعار وانقطاع للكهرباء، العودة إلى المونة، كجزء من آليات التأقلم السلبية التي اعتمدها المواطنون.
شهد العام 2023 تطوّراً إيجابياً في إنتاج المونة، بحسب مرصد الأزمة في الجامعة الأميركية. "إذ ارتفع إنتاج المربّيات السنوي بنحو 4.8 أضعاف. وارتفع إنتاج المنتجات الزراعية المصنّعة (زيتون، مكدوس، طماطم مجفّفة، معجون الطماطم، معجون الحر، زعتر، دبس الرمان، دبس التفاح) حوالى ثلاثة أضعاف. وتمّ إنتاج نحو 20730 ليتراً من المقطّرات (لم تُحدد نسبة تغييرها السنوي لعدم دراستها في العام السابق). وكذلك ارتفع مقدار إنتاج الكشك نحو 5.7 أضعاف (لم يُدرس إنتاج سائر مشتقّات القمح لعدم وجود بيانات لعام 2023). وتوضح هذه المسارات التي بنيت على بيانات إنتاج من 27 تعاونية زراعية في مناطق البقاع الغربي، بعلبك، والشوف، وعكار، والشمال، ازدياداً عاماً في إنتاج هذه المونة، يعكس استمرار توجه الناس نحو إنتاج واستهلاك المواد الغذائية التي لا تتلف بسرعة، والتي يمكن توضيبها وتخزينها من دون الحاجة إلى البرادات أو الثلاجات.
التوسّع في إنتاج "المونة"
تبيّن الأرقام التطوّر المتسارع في صنع المونة على مختلف أشكالها وأنواعها مقارنةً بعام 2022، تاريخ إطلاق المرصد لـ"مؤشر المونة". خصوصاً في ما يتعلّق بصنع المربّيات، ومنتجات القمح، كما يظهر من الرسمين البيانيين (1) و (2). وأسباب هذه الفورة لم تعد ترتبط في العام 2023 بالحاجة فحسب، بل بتنظيم المنتجين للعمل، واتباعهم المعايير العالمية في التصنيع والاستفادة من التقنيات الحديثة للتسويق في الداخل والخارج. هذا بالإضافة إلى تحوّل المونة إلى "صيحة" في عالم الغذاء الصحّي، وإلى طبق رئيسي على موائد بيوت الضيافة، التي كانت الأكثر استقطاباً للسياح في العام 2023. هذه العوامل كلها أسهمت في ازدياد ثقة اللبنانيين بالمنتجات الغذائية التقليدية. "فتخلّوا عن الاعتقاد الشعبي الراسخ "كلّ افرنجي برنجي"، وعادوا إلى المونة بشكلها الحديث وجودتها العالية وأوصافها المتقدّمة"، يقول رئيس جمعية التجارة العادلة في لبنان سمير عبد الملك. وساعد على ذلك عنصران أساسيان: التنوّع الكبير في المنتجات وابتكار أصناف جديدة تشكّل بديلاً أقلّ سعراً وأكثر جودة من المنتجات المصنعة، وارتفاع معدّلات التصدير. ولا سيّما في الدول التي تنتشر فيها الجاليات اللبنانية".
التحدّيات التي تواجه الصناعات الغذائية التقليدية
المحافظة على ما تحقّق إلى الآن، والتوسّع في إنتاج المونة بشكل محترف ومتطوّر في مختلف المناطق اللبنانية، تواجه جملة من التحديات الظرفية والبنيوية. إذ يواجه لبنان تداعيات اقتصادية وبيئية خطيرة نتيجة الاعتداءات الإسرائيلية على جنوب لبنان. مع ما تسبّبه هذه الاعتداءات من أضرار كبيرة وتلوث للتربة والمياه نتيجة للمتفجرات والقذائف واستخدام الفوسفور الأبيض المحرّم دولياً وغيرها. تهدّد هذه الخسائر "باستدامة التوازن في النظام البيئي-الإيكولوجي وأطر التنمية البشرية المستدامة في المناطق الريفية"، بحسب تقرير مرصد الازمة، "بما يعني ذلك منتجات الصناعات الغذائية، ومنها منتجات المونة".
"أمّا بنيوياً فتواجه صناعة المونة تحدّي تخفيض الكلفة، والتقيّد بمواصفات التصنيع والتغليف الحديثة، وتوحيد الطعم للمنتج الواحد، والتسويق خارجياً. وهذه التحدّيات يجري تذليلها تباعاً من خلال إنشاء التجمّعات، أو ما يعرف بالتعاونيات الزراعية"، كما يفيد عبد الملك. إذ يلتزم المنتجون الذين كثيراً ما يكونون في إطار جغرافي قريب استعمال نفس المواد الأولية وطريقة التحضير والتصنيع والتغليف، فيخرج الإنتاج موحّداً، ولو كان مصنّعاً على يد أكثر من منتج وفي العديد من المناطق".
آليّة التكيّف السّلبية التي انتهجها اللبنانيون على صعيد الغذاء منذ العام 2019، كانت الأكثر إيجابية على الصعيدين الصحّي والاقتصادي
التصدير وإمكانية التتبّع
على غرار مختلف السلع، لن تتطوّر المونة نوعياً وكمياً إذا لم يجر تصديرها إلى الخارج. فـ"التصدير حياة الصناعة"، على حد قول المنتجين. وللدخول في هذه العملية يجب أن تتمتع منتجات المونة بإمكانية التتبع أو ما يصطلح على تسميته traceability. فيجب توضيح مصدر المواد الأولية المستعملة وطريقة استقدامها وحفظها، وكيفية تصنيعها، والمواد المستعملة، ودرجة الحرارة عند الإعداد والحفظ وكيفية تغليفها. هذا كله يعني "تأريخ مختلف مراحل المنتج"، برأي عبد الملك. من تاريخ البدء بالتصنيع وصولاً إلى وضع المنتج على "طبلية" التصدير. و"هذا واحد من التحديات الكبيرة التي نعمل عليها مع الوزارات المختصة، ومنها بشكل أساسي وزارة الزراعة. ففي أوروبا مثلاً كانت نسبة التسامح مع المنتجات اللبنانية غير المتقيّدة بالمواصفات تصل إلى حوالى 10 في المئة. أمّا اليوم فقد أصبحت صفراً. فلا يمكن إدخال ما لا يتمتّع بالمواصفات المطلوبة، ولا يمكن تتبعه"، يضيف عبد الملك. وأصبح من الضروري توسيع التجمّعات وتوحيد المنتجات للاستفادة من إمكانية تصديرها وتحقيق عوائد مجزية للمنتجين تمكّنهم من استمرار التصنيع وتشغيل المزيد من العماّل واستعمال أكبر كمّية من المواد الأولية المنتجة محلّياً.
لبنان يشارك في إعلان مؤتمر قمّة المناخ COP28
بإزاء هذه التحديات كلها، كان لافتاً التزام لبنان الرسمي بإعلان مؤتمر الأطراف COP28 الذي عقد في الإمارات أواخر العام الماضي. وذلك استجابةً لتأثير التغيير السلبي غير المسبوق على مرونة الزراعة والنظم الغذائية في جميع أنحاء العالم. ويركّز الإعلان على مجموعة من الأهداف، منها: تنمية القدرات، وتحسين البنية التحتية والابتكارات لتعزيز الأمن الغذائي والإنتاج والتغذية المستدامَين ، ودعم المزارعين والمنتجين الزراعيين، وتعزيز الإدارة المتكاملة للمياه في الزراعة والنظم الغذائية لضمان الاستدامة والحدّ من الآثار السلبية على المجتمعات التي تعتمد على هذه القطاعات.
ولتحقيق هذه الأهداف، تعهّد لبنان مع بقية الدول الالتزام بمجموعة من الإجراءات عام 2025، أهمّها: تأمين مشاركة واسعة النطاق وشفّافة وشاملة، لدمج النظم الزراعية والغذائية في خطط التكيّف الوطنية. وتعزيز قدرات قطاع الزراعة والنظم الغذائية من خلال تعزيز الأنشطة التي تزيد الدخل، وتقلّل من انبعاثات الغازات الدفيئة، وتعزّز القدرة على الصمود والإنتاجية وسبل العيش والتغذية وكفاءة استخدام المياه وصحّة الإنسان والحيوان والنظام البيئي مع تقليل من هدر الأغذية، وتدهور التوازن في النظام البيئي.
آليّة التكيّف السّلبية التي انتهجها اللبنانيون على صعيد الغذاء منذ العام 2019، كانت الأكثر إيجابية على الصعيدين الصحّي والاقتصادي. فهي من ناحية تؤمّن مأكولات صحّية، وتوفّر من الناحية الثانية فرص عمل في الأرياف والمناطق الجبلية وترفع الناتج الحقيقي للفرد وتعزّز صموده.
"الصفا نيوز": أبقينا على كلمة "المونة" العاميّة في التحقيق بدلاً من مترادفتها الفصيحة "المؤونة" لانتشارها الواسع على ألسنة الناس.