غابت أوكرانيا وأحداثها عن المشهد العالمي لتتصدّر العناوين أحداث البحر الأحمر واليمن، والأضرار اللاحقة بالاقتصاد العالمي والحرب في غزة والخوف من ارتداداتها، وما يتّصل بالانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة الأميركية. مهما تكن الأسباب، لم يبق سوى الكلام في الكواليس الخلفية عن توقّف المساعدات الغربية لأوكرانيا وتحوّل كلّ الدعم لإسرائيل في حربها على غزة.
ظهرت أخيراً تقارير إعلامية تفيد بأنّ الولايات المتحدة ستوقف مساعدتها لأوكرانيا، خاصّة لمنظومة الدفاع الجوي الصاروخي من نوع MIM-104 باتريوت. وبطبيعة الحال، كانت مِثل هذه التقارير سبباً في التشكيك في قدرة صمود أوكرانيا وفرصها التي كانت تدّعيها للنصر. فضلاً عن الإستراتيجية الشاملة التي انتهجها الغرب للحدّ من المساعدات لأوكرانيا بهدف التوصّل إلى توقيفها لاحقاً، نظراً للظروف الاقتصادية السيئة.
هذه الحرب التي تجنّد لها الإعلام العالمي على مدى أشهر، وشهدت أكبر حملات دعم ومناصرة وحشد، غابت أخبارها فجأة لتبقى ورقة تفاوضية أو ورقة رابحة في سباق رئاسي.
في سياق بروتوكول السياسة الخارجية الأخير الذي أعلنته موسكو خلال العام الماضي، والذي نصّ: "رداً على التصرفات غير الودّية من الغرب بقيادة الولايات المتحدة التي هدفت إلى تقويض روسيا، تعتزم موسكو الدفاع عن حقّها المشروع في الوجود بكلّ الوسائل المتاحة"، ومن أهدافها فرض تغيير في السياسة الغربية، أو منع الغرب من تحقيق أهدافه المعلنة في محاولة لإحداث تغيير جذري في إستراتيجية القوة العالمية المعادية لها، عدا أنّها، أي روسيا، ستستمرّ في الحرب إلى أن يشعر الغرب بالضغوط الكافية للانفصال عن أوكرانيا. هذا كلّه مع تجنّب المواجهة المباشرة مع حلف الناتو، بحيث تضع موسكو نفسها كقوة عالمية موازية لواشنطن.
في ما يتصل بأوكرانيا، فإنّ تعريفها للنصر هو إعادة السيطرة على الأراضي التي استولت عليها روسيا منذ عام 2014، بالإضافة إلى الضمانات الأمنية من الغرب، وخاصة من الولايات المتحدة الموافقة على انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي ومن خلاله إلى حلف الناتو، والحصول على تعويضات مالية من موسكو لإعادة إعمار ما تهدّم ومحاكمة قادة روسيا على جرائم الحرب.
أمّا بالنسبة إلى الغرب، فإنّ فكرة الانتصار على روسيا كانت ممكنة ما دامت هناك جبهة موحّدة، وكان قد وُضعت أربعة أهداف رئيسية في الاعتبار وهي:
- أولاً، التأكيد على مساعدة أوكرانيا بالسلاح المتطوّر والتكنولوجيا الحديثة بهدف طرد روسيا من أكبر مساحة ممكنة من الأراضي التي استولت عليها.
- ثانياً، التأكّد من أنّ روسيا لن تهاجم أماكن أخرى مثل البلقان أو القوقاز.
- ثالثاً، التأكّد من أنّ نتيجة الحرب ستضعف روسيا، أو أقلّه، منعها من غزو أوكرانيا مرّة أخرى، أو أية دولة على حدودها.
- رابعاً، تجنّب المواجهة العسكرية المباشرة بين حلف الناتو وروسيا.
هذه الأهداف وضعت استناداً إلى تصوّر مفاده أنّ روسيا تشكّل تهديداً للدول غير الأعضاء في حلف الناتو وللغرب على السواء. ففي نهاية المطاف، تعتقد الدول الأوروبية التي تشكّل خط الدفاع الأول الجديد عن أوروبا، مثل بولندا ورومانيا، أنّ أمنها سوف يعتمد بدرجة أولى على نتيجة الحرب بين روسيا وأوكرانيا.
نتيجة لما سبق، ترى موسكو أنّ الدعم العسكري الغربي لأوكرانيا سيتقلّص لسببين أساسيين:
- أولاً، التحدّيات السياسية الداخلية والاقتصادية التي تواجهها الحكومات الغربية في الانتخابات المقبلة، وخاصّة في الولايات المتحدة، علماً أنّ اقتصاد جميع هذه الدول يتدحرج من السيئ إلى الأسوأ.
- ثانياً، بالرغم من أنّ الصين والهند أدانتا الحرب الروسية الأوكرانية، فقد واصلتا التعامل مع موسكو، وهذا ما ساعد روسيا على إبقاء اقتصادها متماسكاً إلى حدٍّ ما.
بعبارة أخرى، تعتقد روسيا أنّ عام 2024 سيكون اختباراً لوحدة دول الغرب الهشّة بشأن أوكرانيا، إذ تراهن على أنّه في حال تعرّض الدول الغربية لمزيد من الضغوط الاقتصادية، ستحدّ حكماً من دعمها لأوكرانيا التي ستُجبر على الدعوة إلى السلام.
وفي كلتا الحالتين، إنّ تعريف النّصر يعني أنّ الجميع سيخوضون حربًا طويلة في حال استمرار الغرب في تقديم الدعم لأوكرانيا، إذ لن يتمكّن أحدٌ من توجيه ضربة سريعة أو حاسمة. وفي حال توقّف الدّعم لا يراهن أحد على أنّ السلام خلف الأبواب بعد كلّ الذي جرى. من هنا لا يمكن إغفال أنّ باب المفاوضات سيبقى هو الحلّ الأنسب بغضّ النّظر عن موعد انتهاء القتال في الميدان.
هذه الحرب التي تجنّد لها الإعلام العالمي على مدى أشهر، وشهدت أكبر حملات دعم ومناصرة وحشد، غابت أخبارها فجأة لتبقى ورقة تفاوضية أو ورقة رابحة في سباق رئاسي. لكن من المؤكّد أن يتمّ اختبار نتيجة هذه الحرب في كلّ دولة غربية تواجه انتخابات خلال العام 2024، بما في ذلك الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وانتخابات البرلمان الأوروبي المقرّر إجراؤها في حزيران المقبل.