شهد العام 2023 المرّة الأولى التي تجاوزت فيها درجات الحرارة العالمية درجتَين مئويّتَين كاملتَين فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية، وفقاً لبيانات المركز الأوروبي للتنبّؤات الجوية متوسّطة المدى. الارتفاع المتمادي في درجات الحرارة سيُترجَم (وقد بدأ بالفعل) كوارثَ طبيعية غير مسبوقة على أكثر من صعيد. وفي عداد قائمة الضحايا، هناك النباتات والملقّحات ودورها في الحفاظ على نظام بيئي صحّي وإمدادات غذائية سليمة.
نعرف أن نمو المحاصيل يعتمد بشدّة على الحشرات الملقّحة. فالتلقيح يُساهم في نقْل حبوب اللقاح من زهرة لأخرى، تمكيناً لعمليّتَي الإخصاب وإنتاج البذور. وبحسب منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو)، ترتكز ثلاثة أرباع المحاصيل عالمياً على الحشرات الملقّحة، بما يصل إلى حولى 577 مليار دولار أميركي من حجم الاقتصاد العالمي سنوياً. لكنّ تبعات التغيُّر المناخي ترخي بظلالها على هذا المضمار بقوّة.
على سبيل المثال، تَراجَع متوسّط أعداد الفراشات إلى النصف تقريباً منذ العام 1991، في حين تُواجِه أعداد النحل انخفاضاً حادّاً بدورها. وهكذا، يغدو طبيعيّاً أن ينعكس المسار الانحداري سلباً على إنتاج الغلال والمحاصيل. فبدون الملقّحات، يصبح جني المحاصيل - وتوريد أنواع كثيرة من الفواكه والحبوب، بما هي بدائل أقلّ بعثاً للكربون من المنتجات الحيوانية - شائكاً ومكلفاً للغاية.
طبعاً، لا يجب التقليل من دور الممارسات الزراعية الخاطئة واستخدام المبيدات الحشرية (خصوصاً تلك التي تحتوي على النيونيكوتينويدات) والتلوّث، كعوامل مزعزِعة لركائز النظام النباتي. لكن تعاظُم ظاهرة الاحتباس الحراري، كما تؤكّد الهيئة الحكومية الدولية المعنيّة بتغيُّر المناخ، يلعب، بما لا يقلّ أهميّة، دوراً مباشراً في تَقهقُر موائل الحشرات أيضاً.
أما تَبدُّل مواقيت إزهار النباتات - ما يُنتج حالة من عدم التزامن بين الأنشطة البيولوجية الرئيسة لدى الملقّحات ومصادر غذائها - فسبب رئيس للخلل ذاك. إذ بيّنت دراسات حديثة أمرَين: انخفاض مستويات التلقيح، حيث تلجأ بعض النباتات لإيجاد موطئ قدمٍ على ارتفاعات أعلى ما يضعها خارج نطاق نشاط الملقّحات؛ وتردّي جودة الرحيق (كمصدر الغذاء الأساسي للعديد من الملقّحات) ومحتوى السكّر فيه.
ووفقاً لما توصّل إليه باحثون في جامعة أكسفورد والأكاديمية الصينية للعلوم مؤخّراً، فإنّ وتيرة المواقيت الموسمية الرئيسة للنباتات باتت أحياناً تسبق حراك الحشرات الملقّحة – لا سيّما النحل والفراشات - بمعدّل أربع مرات استجابة لتبدّل الظروف البيئية. وهذا يؤدي، بحسب الفينولوجيا أو عِلم دراسة النباتات، إلى اضطراب التفاعلات الأساسية بين هذه وتلك، وعلى رأسها التلقيح. إذ وجدت الدراسة التي رصدت أكثر من 1500 نوع من الحشرات العاشبة في أوروبا، على مدار 34 عاماً، أن 60% منها تجهد لمجاراة النباتات التي تعتمد عليها.
اعتمد الباحثون على قاعدة بيانات المرفق العالمي لمعلومات التنوّع البيولوجي لدرْس كيفية تأثير تغيُّر المناخ على عدّة مجموعات أساسية من الحشرات في أوروبا، حيث أن 84 بالمئة من المحاصيل تعتمد مباشرة على الحشرات في التلقيح. ونقطة الارتكاز هي كون التزامن المذكور، على صعيد توقيت النموّ والتكاثر، محوريّاً للحفاظ على توازُن وصحة النُظم البيئية ودورة إنتاج الغذاء. لذا، استنتج يانرو هوانغ، طالب الدكتوراه في جامعة أكسفورد والأكاديمية الصينية للعلوم، أن انعدام التوازن ذاك يشكّل تهديداً جدّياً لكلّ من النُظم البيئية ومعيشة البشر، ويرفع احتمال انقراض الأنواع متبادِلة الاعتماد، لا بل انهيار شبكة الغذاء برمّتها.
لكن بإزاء التقلّبات التي يشهدها التنوّع النباتي، لا بدّ أن تجد الطبيعة توازناً تكيّفيّاً جديداً بين مكوّناتها. فقد أظهرت دراسة للمركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي وجامعة مونبلييه (ونُشرت في مجلة New Phytologist) بدء تخلّي بعض النباتات عن الملقّحات بالفعل. وهو، بعبارات أخرى، اعتيادٌ على التكاثر بدون ملقّحات. فقد تبيّن، مثلاً، أن بعض الأزهار التي تنمو في ضواحي باريس صغرت حجماً بنسبة 10 بالمئة وتضاءلت رحيقاً بنسبة 20 بالمئة خلال العقود الثلاثة الماضية.
وبحسب واضعي الدراسة، فإنّ الأزهار تلك أمست أقلّ جاذبية لملقّحاتها لتنحو منحى التلقيح الذاتي، ما سيحدّ من قدرتها على التكيّف مع التغيّرات البيئية المستقبلية. فالتلقيح أسّس لعلاقة نفعيّة – تطوّرية متبادَلة بين النباتات والملقّحات لملايين السنين. وقد يستحيل المسّ بهذه الدينامية، كتغيُّرٍ استراتيجي خصوصاً في المناطق ذات التنوّع النباتي الأوسع، وصفةً لمجاعة عالمية محتمَلة.
يشير الفريق البحثي إلى أننا بصدد تطوّرٍ سريعٍ لأنظمة التزاوج النباتية في التجمّعات الطبيعية بمواجهة التغيّرات البيئية المستمرّة. وهذا قد يفضي، كردّ فعلٍ ذات آثار أوسع على النُظم البيئية الطبيعية، إلى تسريع وتيرة انخفاض أعداد الملقّحات. بيد أن علامات الاختلال لا تقتصر على تراجُع تلك الأعداد واتّجاه النباتات نحو التلقيح الذاتي، فحسب. فقد أظهرت أبحاث أخرى كيفيّة سيْر النباتات غير القادرة على التلقيح الذاتي في الاتّجاه المعاكس، عبر إنتاج مزيدٍ من حبوب اللقاح سَعياً لجذب عددٍ متناقصٍ من الملقّحات والتفوّق على منافساتها. لا بل، على العكس أيضاً، ثمة زيادة غير معتادة في مستوى نموّ الأزهار في أمكنة أخرى من العالَم.
القارة القطبية الجنوبية، مثلاً، هي إحدى أكثر نواحي الكوكب برودةً، ما يُعيق ازدهار معظم أشكال الحياة من حيث المبدأ. لكن نموّ بعض النباتات بشكلٍ متسارعٍ هناك مردّه إلى تفاقُم ذوبان الجليد القطبي. وهذا يعمل على خلْق حيّز أكبر لازدهار بعض الأنواع النباتية. لكن الازدهار، بالمطلق، ليس ظاهرة صحيّة بالضرورة. وهذا يفسّر قول بيتر كونفاي، الباحث البريطاني في معهد British Antarctic Survey، إن المسألة لا تتعلّق بنموّ حياةٍ ما بصورةٍ متسارعةٍ بقدْر معاينتِنا لما يشبه نقطة تحوّل. وهو توصيفٌ يحمل في طيّاته الكثير.