جريمة كبرى تُرتكب بحقّ الاقتصاد اللبناني إذ تتهاوى إنتاجية القطاع الخاص تحت أنظار السلطة السياسية التي لا تقوم بأيّ إجراء لتفادي هذا الأمر، وهو ما يؤدّي إلى ضرب هيكلية النموّ الاقتصادي على المدى البعيد.
وكما نصّ عليه الدستور اللبناني في مادّته الخامسة والستين، يضع مجلس الوزراء السياسة العامّة للدولة في جميع المجالات ويضع مشاریع القوانین والمراسیم التنظیمیة ويتخذ القرارات اللازمة لتطبیقها. وتالياً فإنّ النظام الاقتصادي اللبناني الذي يكفل المبادرة الفردية بحسب مقدّمة الدستور (فقرة "و") هو من مسؤولية السلطة، وتطويره ودعمه يأتيان في صلب العمل الاقتصادي الحكومي.
وبحسب النظريّة الاقتصادية، تتألّف مهام الحكومة من ثلاثة أجزاء متكاملة ومُتّحدة، وتنمّ عن عمل علمي بحت لا تدخل فيه الحسابات السياسية الرخيصة:
الجزء الأول: إيجاد توازن داخلي والحفاظ عليه من خلال استقرار الأسعار والتوظيف الكامل.
الجزء الثاني: إيجاد توازن خارجي والحفاظ عليه من خلال حساب جاري يوازي الصفر.
الجزء الثالث: إيجاد سعر صرف للعملة الوطنية يتناسب والجزءين الأول والثاني.
المُشكلة أنّ في لبنان نقصاً هائلاً في السياسات الحكومية وتقصيراً هائلاً في تأدية مهام الحكومة لعدة أسباب، لعلّ أوّلها المناكفات السياسية وهو ما يضرب بالتوازن الداخلي والخارجي عرض الحائط، وحكمًا كنتيجة سعر صرف العملة.
إنّها فوضى اقتصادية هائلة لن تُعيد للبنان مكانته الإقتصادية على مدى عقود.
في الأنظمة الليبرالية، يكون للقطاع الخاص دور أساسي في اللعبة الاقتصادية وللحكومة دور أساسي في إنجاح هذا الدور من خلال المناخ الإقتصادي العام ومن خلال التشريعات والرقابة. ولعلّ البنى التحتية تأتي على رأس لائحة احتياجات القطاع الخاص، وهو ما لا تستطيع الحكومة تأمينه، اليوم. فمثلًا، على أثر الأزمة المالية والإقتصادية التي بدأت منذ أكثر من خمسة أعوام، يُحاول القطاع الخاص تأمين استمراريته من خلال تأمين خدمات للشركات الخارجية (مثلًا في مجال البرمجة). وإذ بالإنترنت الذي يُصنّف الأول في الكلفة في الشرق الأوسط، لا يُلبّي الحاجة! لا بل على العكس هو من الأسوأ في المنطقة وتقوم الدولة باحتكار هذا القطاع بشكل مُروّع.
وبالنّظر إلى الأرقام الاقتصادية، نرى أنّ إنتاجية العامل اللبناني تتردّى مع الوقت وتتطوّر بشكل عشوائي مُرعب، يُظهر عجز السلطات عن السيطرة على اللعبة الاقتصادية التي تقوم بتنظيمها! وبنظرة إلى هذه الأرقام نرى مثلًا أنّ إنتاجية العامل اللبناني بلغت مستوياتها الأعلى في العام 1987، وهي أعلى بكثير مما هي عليه اليوم (أنظر إلى الرسم). أمّا النّظر إلى إنتاجية العامل الأميركي، فيُشير إلى أنّ هذه الإنتاجية هي في تطور مدروس ومُستمرّ على الرّغم من الأزمات العالمية. وهو ما يُظهر سيطرة الإدارة الأميركية على اقتصادها بشكل علمي ودقيق وذلك بمعزل عن هوية الرئيس السياسية والصراع السياسي التقليدي القائم بين الجمهوريين والديموقراطيين.
إنّ الخسائر المُترتّبة على ضرب إنتاجية العامل اللبناني، والخسائر (opportunity cost) التي تتكبّدها الشركات نتيجة ضعف الحوكمة الاقتصادية للسلطة إن على مستوى التشريعات (ضرائب، معاملات...) أو على مستوى الخدمات (كهرباء، إتصالات...) يؤدّي إلى خلل هيكلي في تركيبة النموّ الاقتصادي الذي من المفترض أن يكون مدروسًا ومُستدامًا. وبالنّظر إلى البيانات التاريخية للناتج المحلّي الإجمالي اللبناني وإنتاجية العامل اللبناني نرى التوزيع العشوائي (chaos) في هذه الأرقام، وهو ما يعني أنّه لا يُمكن البناء على نتائج السنة الماضية لفهم نتائج السنة الحالية أو توقّع نتائج السنة القادمة، والسبب يعود إلى هذه العشوائية التي يغلب عليها الطابع السياسي الذي لا يعي أهمّية المُحافظة على إنتاجية مُرتفعة للعامل اللبناني (أنظر إلى الرسم).
من جهتها، أصبحت الشركات اللبنانية تهتمّ أكثر باستمراريتها من خلال البحث عن أرباح على المدى القصير من دون النظر إلى الفرص الاستثمارية ونتائجها على المديين المتوسّط والبعيد. ولعلّ تأهيل اليد العاملة هو مثال صارخ على هذا التقصير من قبل القطاع الخاص الذي لم يعد يقوم بتأهيل مُستمرّ (Training) لتقوية مهارات العمال وتحسين انتاجيتهم. وثمة شركات ترى فرصة استثمارية، فتنفذّها في الخارج على حساب الاستثمارات الداخلية مُبرّرة هذا الأمر في غياب التشريعات والإصلاحات الإقتصادية وضعف البنى التحتية وهشاشة الوضعين السياسي والأمني وغيرهما.
إنّها فوضى اقتصادية هائلة لن تُعيد للبنان مكانته الإقتصادية على مدى عقود. وإذا كان البعض يرى في ما يحصل على صعيد اقتصاد الكاش من نموّ اقتصادي إنجازاً، فهو حكمًا مُخطئ، لأنّ هذا النموّ لا يدخل في الحسابات الرسمية للاقتصاد وهو موضع شكّ في ما يخصّ مصدر الأموال وكيفية توزيعها على اللاعبين الاقتصاديين وحصّة الدوّلة منها من خلال الضرائب...
كذلك فإنّ من يرى أنّ لبنان قادر على النهوض بسرعة ومنافسة الاقتصادات الأخرى بمجرّد إقرار قوانين في المجلس النيابي، فهو حكمًا مُخطئ لأنّ الثقة بالماكينة الإنتاجية تنبع من عدّة عوامل، مُعظمها غير متوفر في لبنان وتتطلّب وقتًا طويلًا لاستعادتها. ومن يظنّ أنّ استخراج الغاز من عرض البحر وتصديره إلى أوروبا هو إنجاز كبير، فهو أيضًا وأيضًا مُخطئ بحكم أنّه بدون هيكلية إقتصادية قادرة على مواكبة هذا الاستخراج، فهذه الأموال لن تُحقّق إلّا حلولًا مؤقتة.
آن الآوان لأصحاب القرار أن يأخذوا بعين الاعتبار الخسائر الهائلة التي تنتج عن ضرب الإنتاجية للعامل اللبناني، والسعي إلى القيام بما يلزم على جميع الصّعد بغية تأمين العوامل لتحسين هذه الإنتاجية بغضّ النّظر عن هذه العوامل سياسيةً كانت أو اقتصادية أو مالية!