كما في الحرب كذلك في السلم، لا جبهة "ميتة" مهما دام هدوؤها ولا تراخي أو اطمئنان أو "استخفاف". كذلك، ديناميكية الحركة بين الجبهات أكثر من ضرورية. فأيّ خطأ على جبهة قد يتسبّب بإرباك وربما انهيار باقي الجبهات والتساقط كأحجار الدومينو. هذه الخلاصة تدركها جيداً "القوات اللبنانية" ويفقهها رئيسها سمير جعجع بالممارسة لا بالإطار النظري. واقعة حرب زحلة في 2 نيسان 1981 حافرة في الأذهان، حين أرسل القائد المؤسس لـ"القوات" الرئيس الشهيد بشير الجميل 3 مجموعات لمساندة المدينة، إحداها مجموعة الشمال بقيادة جعجع الذي اضطر بعد ساعات من الوصول للانسحاب فوراً بناءً على أوامر الجميّل لأنّ الجيش السوري فتح جبهة الشمال. كانت رحلة الساعات ذهاباً وإياباً شاقّة وسط الجرود والثلوج، والأهمّ خطرة ومحفوفة بالموت حيث كاد القصف السوري يقضي على جعجع بعدما سقط مرافقه اللصيق نبيل رحمة وحمته العناية الإلهية. كما فقد جرّاء ذلك رفيقه قائد ثكنة اللقلوق نجا خوري.
يطلّ عام 2024 وسط "الجائحة الدموية" في غزة ومتحوّراتها من باب المندب إلى جنوب لبنان، والتي قد تصيب المنطقة بأثرها، ما يجعل "القوات اللبنانية" مستنفرة على جميع الجبهات. قد يتوهّم بعضهم أنّ أكثر جبهة تقلق جعجع هي الجبهة السياسية ومحاور تحلّل مؤسّسات الدولة والفراغ الرئاسي ومجابهة "حزب الله". إلّا أنّ الجبهة الأساسية التي تقلقه هي الجبهة الاجتماعية – الصحّية – التربوية، لذا بعدما تظهّرت خارطة توزيع القوى في ساحة النجمة عقب انتخابات 2022 والتوازن السلبي وتكرّست بالممارسة عبر أداء الأطراف السياسية، أدرك جعجع أنّ المعركة هي معركة صمود و"مَن يصبر إلى المنتهى يخلُص". كرّر ذلك مراراً أمام من التقاهم عام 2023، وانكبّ على أصغر التفاصيل الاجتماعية من دير الاحمر إلى صغبين ومن القبيات إلى عين إبل.
على الجبهة الداخلية، دعّمت "القوات" صفوفها عام 2023 بإجراء انتخابات لهيئتها التنفيذية، تعتبر خطوة تراكمية لتعزيز الممارسة الحزبية الديمقراطية في شرق تطغى فيه الشعائر التقليدية والعصبيات القبلية على جوهر المفاهيم الحزبية. أثبتت أنّ كتلتها النيابية متراصة فيما التمايزات وصولاً إلى الانقسامات عصفت بكتل كثيرة. كما لم تصبها عدوى الانشقاقات جرّاء الانتخابات النيابية عام 2022 كما شهد "التيار الوطني الحر". واصلت صعودها الشعبي عبر اكتساحها الانتخابات الطالبية في الجامعات وتكريس حضورها الوازن نقابياً.
أمّا على الجبهة السياسية، ففي محور "تجميع القوى" نجحت "القوات" بكسر العزلة النسبية في التحالفات في انتخابات 2022، والتي لم تحُلْ دون حصدها أكبر كتلة نيابية وطنياً وأكبر حجم أصوات مسيحياً، وساهمت في تشكيل جبهة معارضة متراصّة من 31 نائباً على تنسيق مستدام مع كتل أخرى.
نجحت "القوات" بكسر العزلة النسبية في التحالفات في انتخابات 2022، والتي لم تحُلْ دون حصدها أكبر كتلة نيابية وطنياً وأكبر حجم أصوات مسيحياً
في محور "المبادرات"، لم تكبّل نفسها بمواقفها في الملفّ الرئاسي ونجحت بالانتقال بسلاسة من ترشيح النائب ميشال معوض إلى التقاطع مع خصمها اللدود النائب جبران باسيل على اسم جهاد أزعور. كما نجحت في معركة "التمديد" لقائد الجيش العماد جوزاف عون مستفيدة من إصرار بكركي والمناخ الدولي المؤيّد. لذا هي تراهن على تعزيز دور الجبهة المعارضة عام 2024، ومدّ الجسور عبرها مع الآخرين، مذكّرة دوماً أنّ لقاء "قرنة شهوان" كان يضمّ أقلّ من عشرة نواب ونجح بالعبور نحو "لقاء البريستول" وصولاً إلى "ثورة الأرز".
في محور "العلاقات الدبلوماسية"، تمتلك "القوات اللبنانية" مروحة علاقات دولية تكاد تشمل جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة الـ 193 باستثناء إيران وسوريا وإسرائيل. فإلى جانب المسيرة الدبلوماسية الشخصية لجعجع منذ نحو 40 عاماً، لدى "القوات" جهاز للعلاقات الخارجية ناشط ويمتلك حضوراً من مكاتب ومندوبين في جميع عواصم القرار. كما تعوّل على تكرار سيناريو عام 2023 هذا العام بما يتعلّق بالتشبّث بالمواقف النابعة من احترام الدستور وإعلاء المصلحة الوطنية، إذ ترى أنّ رفضها الصلب للمبادرة الفرنسية القائمة على صفقة "فرنجية لبعبدا – سلام للسرايا" ولـ"مسايرة" رئيس مجلس النواب نبيه برّي في دعوته إلى الحوار رغم كلّ الضغوط المترافقة مع حراك داخلي ودبلوماسي خصوصاً تجاه الدول الخمس المعنية بلبنان، أثمر الإطاحة بالمبادرة الفرنسية وتراجع حظوظ مرشح "الثنائي" سليمان فرنجية وسحب الموفد الفرنسي جان إيف لو دريان مصطلح "الحوار" من مداولاته.
في محور "الأمن"، ستواصل "القوات" نهجها القائم على الوقوف خلف الدولة اللبنانية ومؤسسة الجيش اللبناني مع تذكيرها دوماً أنّه "إذا دعا داع أو داعش وتكرّر سيناريو 1975 وانهار الجيش، فلن تبقى مكتوفة اليدين" تنظر الى استباحة أهلها وأرضها ومجتمعها. عام 2023 لم تسقط بفخّ الدعوات لفرض "الأمن الذاتي" ولم تستدرج إلى ردّ غرائزي في "قرنة السوداء" أو على اغتيال أحد قيادييها ابن بلدة عين إبل إلياس الحصروني "الحنتوش". كما تعتبر أنّ مسار الحوادث منذ العام 2005 من حوادث "23 كانون" 2006 إلى "7 أيار" 2008 انتهاءً بـ "الطيونة – عين الرمانة" في 14 تشرين الأول 2022 كفيل بألّا يجرؤ أحد على استنساخ "7 ايار" في مناطقها.
أمّا في محاور "الفراغ الرئاسي"، "التحقيق في انفجار 4 آب"، "تحلّل مؤسسات الدولة"، "التعافي الاقتصادي والمالي"، "الإصلاحات" وغيرها، فـ"القوات" تدرك جيداً أنّ مفتاح الحلّ مرتبط مباشرة بـ"حزب الله". تراقب ارتدادات "حرب غزة" من طهران إلى دمشق والمسارات الدولية أكان مع إيران أو في خضمّ الحرب "الروسية – الأوكرانية أو في الحراك الصيني أو حتى النهج الخليجي مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان.
تدرك "القوات" أنّ المشكلة مع "الحزب" ليست ظرفية أو سياسية وحلّها ليس محلّياً فقط. فهي مشكلة بنيوية مرتبطة بعلّة وجوده وهي قيام الجمهورية الإسلامية، وبإديولوجيته المتحدّرة من رحم "الإخوان المسلمين" وفق النسخة الشيعية المتمثّلة بـ "حزب الدعوة" والمتجسّدة بقيام "الجمهورية الإسلامية في إيران عام 1979. لذا تعتبر من تجارب الآخرين من "الحلف الرباعي" إلى "ربط النزاع" وما بينهما من طاولات حوار حيث مارس "الحزب" التقيّة و"القضم" والتنصّل من التزاماته. فكانت الحصيلة حصده المكاسب على حساب تضحيات الأفرقاء الآخرين وأحجامهم وربما وجودهم.
لذا ما يحاول بعضهم الترويج له عن إمكان فتح خطوط بين "القوات" و"حزب الله" هو من باب ذرّ الرماد في العيون. فهي تدرّك أنّ امتلاك القوّة وتجميع الأوراق وحدهما يجديان لفرملة "الحزب". من هنا عنوان العام 2024 سيكون كيفية حضّ باقي الأفرقاء اللبنانيين على مقاربة معضلة وجود "حزب الله" من منطلق سيادي ودولتي بعيداً عن التكاذب وسياسة "تبويس اللحى" لأنّ لا أمل بخروج لبنان من مستنقع الانهيار والعبور إلى الإصلاحات وإعادة إحياء المؤسسات والاستقرار والازدهار في ظلّ فقدانه السيطرة على قرار الحرب والسلم واستمرار "الحزب" بنهجه القائم.