نصّت المادة 64 من الدستور اللبناني والمُعدّلة بالقانون الدستوري الصادر في 1990/9/21 في بندها الثاني على أن "...لا تمارس الحكومة صلاحیّاتها قبل نیلها الثقة ولا بعد استقالتها أو اعتبارها مستقیلة، إلّا بالمعنى الضیّق لتصریف الأعمال". وعلى هذا الصعيد أصدر رئيس الحكومة السابق سعد الحريري في 7 حزيران 2018 تعميمًا يطلب فيه من وزرائه "حصر ممارسة صلاحياتهم خلال فترة تصريف أعمال إداراتهم في نطاق الأعمال الإدارية العادية بالمعنى الضيّق المنصوص عليه في البند (2) من المادة (64) من الدستور". وبرّر التعميم هذا الطلب، بالاجتهاد الإداري الذي حدّد مفهوم تصريف الأعمال، مُميّزًا بين الأعمال الإدارية التي تدخل في تصريف الأعمال وتلك التي لا تدخل في تصريف الأعمال.
وبحسب الاجتهاد الإداري، فإنّ الأعمال الإدارية التصرّفية التي لا تدخل في نطاق تصريف الأعمال هي "الأعمال التي ترمي إلى إحداث أعباء جديدة أو التصرّف باعتمادات هامّة أو إدخال تعديل جوهري على سير المصالح العامّة وفي أوضاع البلاد السياسية والاقتصادية. وهذه الفئة من الأعمال تخرج بطبيعتها عن نطاق الأعمال العادية، ولا يجوز لحكومة مستقيلة، من حيث المبدأ، أن تقوم بها باستثناء ما تعلّق منها بتدابير الضرورة التي تفرضها ظروف استثنائية تتعلّق بالنظام العام وأمن الدولة الداخلي والخارجي، وكذلك الأعمال الإدارية التي يجب إجراؤها في مهل محدّدة بالقوانين تحت طائلة السقوط والإبطال".
النظام اللبناني بجوهره قائم على فصل السلطات والأهمّ إناطة مهام ومسؤولية بكلّ سلطة من هذه السلطات (تشريعية، تنفيذية وقضائية). وإذا كانت السلطة التشريعية تُحاسَب من قبل الناخبين فإنّ السلطة التنفيذية المُتمثّلة بالحكومة لا تستطيع ممارسة مهامها من دون الاستحصال على ثقة السلطة التشريعية (الدستور اللبناني – المادة 64 – البند الثاني)، وتاليًا هي خاضعة لمساءلة السلطة التشريعية ما دامت حاصلة على ثقة المجلس. وهذا يعني أنّ استقالة الحكومة تُنهي حكمًا هذه المسؤولية أمام السلطة التشريعية التي تتمتّع بشكل أو بآخر بـ "حصانة الاستقالة" باستثناء الأعمال المُخالفة للقوانين التي تُحاسبها عليها السلطة القضائية. من هذا المُنطلق، قام المُشرّع اللبناني، بكلّ منطق، بالحدّ من صلاحيات حكومة تصريف الأعمال. وللتذكير، كان هناك موقف لافت لرئيس مجلس النواب نبيه برّي برفض تلقّي مشاريع قوانين من حكومة تصريف أعمال (حكومة حسان دياب) في شهر آب من العام 2020.
حكومة الرئيس ميقاتي مُستقيلة منذ أيار العام 2022 عملًا بالمادة 69 البند "ه" من الدستور اللبناني. وعليه، هي حكومة تصريف أعمال غير خاضعة للمساءلة من قبل المجلس النيابي. وإذا كانت الظروف فرضت على هذه الحكومة أو سابقاتها بعض القرارات المُهمّة عملًا بمبدأ "الظروف الاستثنائية" و"رفض الفراغ المطلق في السلطة" (وهذا مُبرّر منطقيًا)، فمن غير المنطقي أن تطرح حكومة تصريف أعمال بوزراء غير خاضعين للمساءلة (عملًا بالمادة 70 من الدستور اللبناني)، مشاريع قوانين أمام السلطة التشريعية، خصوصًا إذا كانت هذه المشاريع ذات تداعيات اقتصادية ومالية ونقدية واجتماعية هائلة كالتي تطرحها حكومة الرئيس نجيب ميقاتي!
هذا هو السبيل شبه الوحيد لاستعادة ثقة المُجتمع الدولي واللاعبين الاقتصاديين
المشاريع ذات البعدين المالي والإقتصادي التي قامت حكومة الرئيس ميقاتي بطرحها هي مشاريع جوهرية تطال عمق الكيان اللبناني، وهو أمر مُخالف للاجتهاد الإداري الذي نصّ على أنّ "...الأعمال التي ترمي إلى إحداث أعباء جديدة أو التصرّف بإعتمادات هامة أو إدخال تعديل جوهري على سير المصالح العامّة وفي أوضاع البلاد السياسية والإقتصادية..." هي خارج نطاق تصريف الأعمال. إذًا كيف لحكومة الرئيس ميقاتي أن تطرح مشاريع قوانين ذات تداعيات هائلة على الكيان اللبناني (أو أن تُشرّع بمرسوم تشريعي) من دون حسيبٍ أو رقيب؟
فعلى سبيل المثال، يُشكّل مشروع موازنة العام 2024 مثالًا صارخًا على الفكرة التي نودّ إظهارها للرأي العام. هذا المشروع يحوي ضرائب رفضتها لجنة المال والموازنة، وأجمع الخبراء على الضرر الذي سينتج عن هذه السلّة الضريبية في ظلّ الواقع الاقتصادي القائم. هذا المشروع الذي سيسقط بصيغته الحالية إذا ما عُرض على الهيئة العام للمجلس النيابي، تنوي حكومة ميقاتي إقراره بمرسوم تشريعي عملًا بالمادة 86 من الدستور اللبناني. ومن ثم فإن الحكومة وأعضاءها الذين قد يتّخذون قرارًا كهذا غير خاضعين للمساءلة وغير مسؤولين عن تداعيات مثل هذا قرار.
أيضًا من الأمثلة التي يُمكن إعطاؤها عن خطورة قيام حكومة تصريف أعمال – عنيت بذلك حكومة الرئيس ميقاتي – بطرح مشاريع قوانين مصيرية، مشروع "استعادة الانتظام المالي العام" الذي يُشكّل خطرًا حتميًا على ودائع المودعين في المصارف اللبنانية. فاقتراح شركة "لازارد" بشطب ديون المصارف على الدولة وعلى مصرف لبنان والذي تبنّته حكومة الرئيس ميقاتي، سيؤدّي حكمًا إلى ضرب القطاع المصرفي، ممّا يعني ضرب الودائع.
الأمثلة كثيرة. ولن يكون هناك من مُتّسع لسردها كلّها، إلّا أن هناك نقطة لافتة في عمل حكومة تصريف الأعمال يجب الوقوف عندها: كلّ مشاريع القوانين التي طرحتها تطال الشقّ المالي، مع العلم أنّ تداعياتها الكارثية المُحتملة كبيرة على الكيان اللبناني، وفي نفس الوقت، عجزت الحكومة عن التعاطي مع الملفّ الإداري في ما يخصّ قيادة الجيش (ورئاسة الأركان حتّى الساعة) وحاكمية المصرف المركزي... وهذا الأمر يطرح علامات استفهام كبيرة حول النوايا المبيّتة خلف طرح مشاريع القوانين المالية، خصوصًا أنّ هذه المشاريع – كلّها، وبدون استثناء – أضعفت وتُضعف لبنان والمجتمع اللبناني داخليًا وخارجيًا. علامات الاستفهام هذه تشمل القوى السياسية التي تُمعن في تأخير إعادة تكوين السلطة التنفيذية بشقّيها رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء، ومن خلفها كلّ المناصب الشاغرة في الدولة اللبنانية والتي أصبحت بمعظمها بالإنابة.
إنّ المدخل لأيّ حلّ اقتصادي أو مالي أو نقدي، يبدأ من دون أدنى شكّ بانتخاب رئيس جمهورية وتشكيل حكومة تستحصل على ثقة المجلس النيابي للقيام بطرح السياسات العامة، حكومة تكون مسؤولة وعرضة للمساءلة وليست حكومة تستطيع القيام بما تريد (موازنة 2024) من دون القدرة على مساءلتها من أيّ جهة أخرى. هذا هو السبيل شبه الوحيد لاستعادة ثقة المُجتمع الدولي واللاعبين الاقتصاديين (مُستثمرين ومُستهلكين).