الرابط بين الشيخوخة والطبيعة، عموماً، والمساحات الخضراء، خصوصاً، مقيمٌ دائمٌ تحت مبضع التشريح العلمي. وهذا لا يعني فقط إبعاد شبح تراجُع الوظائف الإدراكية لدى المسنّين، بل إطالة أعمارهم "صحياً" أيضاً. أمّا ارتباط الشيخوخة بتطوُّرنا كجنسٍ بشري، فبُعدٌ آخر يستدعي إلقاء مزيدٍ من الضوء على هذه المرحلة العمرية بالتحديد.
نهاية العام الماضي، أوردت مجلة JAMA Network Open دراسة شملت حوالى 62 مليون مستفيد من نظام الرعاية الصحية الأميركي، مُبرزةً دور الطبيعة المساعد في الوقاية من خطر الإصابة ببعض الاضطرابات التنكّسية العصبية ومَرضَي باركنسون وألزهايمر. وبداية هذا العام، لفتت دراسة فنلندية نُشرت في مجلة Occupational and Environmental Medicine إلى أن زيارة المساحات الخضراء تَحدّ من احتمالات تناوُل الزائرين لأدوية الربو وارتفاع ضغط الدم بمقدار الثلث والربع، على التوالي، ويُقلّل جذرياً من استخدام أدوية الصحة العقلية، بواقع الثلث تقريباً.
في مكان آخر، تناول علماء من جامعة نورث وسترن، في دراسة رائدة نُشرت في مجلة Science Advances في حزيران الماضي، كيفية تأثير العيش بمحاذاة المساحات الخضراء على تقدُّم الجسم في العمر. وبرز رابط بين المساحات تلك وتباطؤ الشيخوخة، حيث ظهر من عاشوا لفترات أطول بالقرب منها أصغر سنّاً بيولوجياً بواقع سنتين ونصف السنة، في المتوسط، مقارَنةً مع من تواجدوا بالقرب من مساحات أقلّ خضرة.
الدراسة، التي شملت أكثر من 900 فرد من أربع مدن أميركية مختلفة، ركّزت على تأثير التعرّض طويل الأمد (لحوالى 20 سنة) للمساحات الخضراء الحضرية على الشيخوخة البيولوجية (أو الهرم)، باستخدام العمر اللاجيني القائم على مثيلة الحمض النووي. والعمر اللاجيني ذاك - كعلامة حيوية للشيخوخة المرتبطة بالأمراض المتّصلة بالعمر - يشير إلى التغيّرات الكيميائية التي تطرأ على الحمض النووي، مؤثّرةً بدورها على التبعات الصحية ذات الصلة بالعمر.
قام الفريق البحثي بتقييم التعرّض طويل الأمد للمساحات الخضراء المحيطة مستخدِمين تقنيّة التصوير عبر الأقمار الصناعية، ما سمح لهم بقياس الغطاء النباتي الإجمالي بالقرب من مَساكن المشاركين. ولتقييم عمرهم البيولوجي، جرى تحليل مثيلة الحمض النووي في عيّنات دم كلّ منهم. ووفق الباحثين، تُسلّط الدراسة الضوء على التأثير الصحي (ويشمل أمراض القلب والأوعية الدموية والسرطان والوظائف الإدراكية والوفيات) للبيئة الطبيعية على المستوى الجزيئي. وجاء ذلك بمعزل عن التفاوت في فوائد التعرّض على أساس العِرق والجنس والحالتين الاجتماعية والاقتصادية.
أميركياً أيضاً، توصّل فريق من جامعة ولاية كارولينا الشمالية - في بحث نُشر قبل أيام في مجلة Science of the Total Environment - إلى خلاصات مشابهة من خلال قياس تأثير المساحات الخضراء على المستوى الخلوي، ومدى قدرتها على تعويض الأضرار البيئية. فنتيجة متابعةٍ عابرةٍ للعِرق أو أسلوب الحياة أو حتى الوضع الاقتصادي لـ7827 شخصاً، وجد الباحثون أن لدى من يعيشون في مناطق "خضراء" تيلوميرات أطول. والتيلومير، المرتبط بطول العمر تحديداً، منطقة في تسلسل الحمض النووي قوامها أجزاء متكرّرة من الأخير وموجودة في نهايات كلّ من الكروموسومات الـ46 لدى البشر.
ماذا يعني ذلك؟ لدى انقسام الخلية، تخسر تيلوميراتها جزءاً من طولها، إلى أن تعجز عن أي تقسيم إضافي لمادتها الوراثية. وهو ما يجعل التيلوميرات من سمات العمر البيولوجي الأساسية. وحيث أن من شأن العديد من المتغيّرات النفسية التأثير على مدى سرعة تآكل التيلوميرات، تحلّ منافع المساحات الخضراء تخفيفاً لمختلف الضغوط: من الحفاظ على درجات حرارة أكثر اعتدالاً أثناء موجات الحر، إلى التقليل من نسب تلوّث الهواء والضوضاء، إلى التشجيع على ممارسة النشاط البدني والتفاعل الاجتماعي.
وفي قراءة لمتوسط معدّل الاستنزاف في العيّنات موضوع الدراسة، ثبُتت إمكانية تقليل المساحات الخضراء للعمر البيولوجي للفرد بواقع 2.2 إلى 2.6 سنة. لكن ماذا لو كنّا، من خلال بلوغنا الشيخوخة، نُساهم في تطوُّر جنسنا البشري؟ بحث جديد في مجلة BMC Biology حاول الإجابة عن هذا السؤال معتمِداً على نموذج حاسوبي طوّره فريق من مركز HUN-REN للأبحاث البيئية في المجر.
النتيجة الأولية: احتمالية انتقاء الشيخوخة إيجابياً على غرار السمات البشرية الأخرى. وهو ما ينكبّ عليه العلماء لِفهْم حتمية الشيخوخة وما يرافقها من هرمٍ وتدهوُرٍ جسماني. والحال أنه يمكن في مواقف معيَّنة، وفق النموذج المطوَّر، أن يأتي الهرم بالمنفعة لجنسنا – أي، قد تتحلّى الشيخوخة بوظيفة تطوُّرية إن خضع الهرم لمبدأ الانتقاء.
في بيئة متغيّرة، كما صرّح الفريق، يمكن لديناميّتَي الشيخوخة والوفاة لجْم المنافسة التي تعيق تكاثُر السلالة الأكثر قدرة على التكيّف مع تركيبات جينية أفضل. وهذا يخلق حيّزاً لنشوء جيل يتمتّع بمجموعات جينية أفضل، غالباً عبر انتقال جينات المعمّرين - إذ هُم يساعدون ذويهم الأصغر سنّاً على تكوين جيل جديد - إلى أخلافهم.
وأمام هذا الكمّ من المعطيات، حريّ بنا أن نسأل: إلى أي حدّ يقوّض اغترابنا عن الطبيعة العالَم البيولوجي من حولنا ويصدّع، بالتالي، مسارنا التطوُّري؟ أما مناسبة التساؤل، فيظلّلها واقعان: أوّلاً، التحوُّل المتزايد للمناطق الحضرية إلى "جُزر حرارية" بسبب امتصاص كتلها من الخرسانة لأشعّة الشمس؛ وثانياً، إقامة أكثر من نصف سكان العالَم حالياً في المدن والمناطق الحضرية، مع توقُّع ارتفاع النسبة إلى 68 في المئة بحلول عام 2050.
وهذا يحيل سَعْينا لإبطاء الشيخوخة من هاجسٍ لكسب بضع سنوات هنا أو خسارتها هناك إلى ما هو أكثر تشعُّباً. فمن علاقتنا المتردّية بالطبيعة إلى مساهمتنا المحتملة بخلخلة سياقاتنا التطوُّرية، ثمة باب يُشرّع شيخوختنا على أسئلة جوهرية تخصّنا جميعاً، شيباً وشباباً.