تمسّك "حزب الله" منذ اللحظة الأولى لـ"طوفان الاقصى" بما أسماه "قواعد الاشتباك" لفرملة أيّ انجرار إلى مواجهة شاملة مع إسرائيل في خضمّ حفاظه على "ماء وجه المقاومة" عبر قيامه بعمليات مضبوطة، أثبتت إصراره على عدم إسقاط القرار الأممي 1701 بالضربة القاضية. في الأساس، قدّم هذا القرار أرباحاً للطرفين اللذين حرصا منذ تاريخ بدء تطبيقه في 14 آب 2006 حتّى 8 تشرين الأول 2023 على الحفاظ عليها وغضّا النظر عن بعض الشوائب.
بالنّسبة لـ"حزب الله"، شكّل هذا القرار "طوق نجاة" من "حرب تموز" وهو الذي أكّد أمينه العام السيد حسن نصرالله بعد أسبوعين من انتهائها أنّه "لو كان يعلم ولو 1% أنّ عملية الأسر ستؤدّي إلى حرب بهذه السعة وبهذا الحجم، وستقود إلى هذه النتيجة لما قام بها قطعاً". كما أتاح له الاستقرار النّسبي جنوباً رفع منسوب تعزيزاته وقدراته العسكرية من جهة، والتفرّغ للّعبة السياسية الداخلية والتغلّغل في مفاصل الإدارة، بعدما دخل السلطة التنفيذية عام 2005 بناءً على إصدار العلّامة الشيخ صادق النابلسي فتوى تجيز له دخول الحكومة لـ"ضبط اللعبة" بعد الانسحاب السوري.
أمّا بالنّسبة لإسرائيل، فلا "عملية الليطاني" والاجتياح الإسرائيلي عام 1978 وإقامة منطقة فاصلة، ولا "عملية سلامة الجليل" والاجتياح وصولاً إلى بيروت عام 1982، نجحا بتوفير الاستقرار على الحدود مع لبنان كما أمّنه القرار 1701. آخر ثمار هذا الاستقرار بدء العمل على ملف تثبيت الحدود البرّية، بعدما تمّ ترسيم الحدود البحرية مع "إسرائيل" كما أعلن حرفياً الرئيس نبيه بري. أتى ذلك بـ"بركة" من "الحزب" وفي أحسن الأحوال بـ"غضّ نظر" منه، وهو الذي لطالما كرّر أمينه العام سنوياً في "يوم القدس" لن نفرّط بنقطة ماء لفلسطين. الأخير أمل أن يكون استخراج الغاز بديلاً عن ما يعتبره ضمناً "استعمار صندوق النّقد الدولي" وكذلك تحصيناً لجبهته من أيّ خرق من باب الانهيار المالي والأزمة التي تعصف بلبنان.
"الحزب" المتمسّك بالحفاظ على الـ1701 يحاول التملّص من تطبيقه لإدراكه أنّ أيّ تنفيذ للقرار سيكون صارماً هذه المرّة
اليوم، في خضمّ مساعي تجنيب البلاد الانزلاق إلى الحرب المفتوحة مع إسرائيل، ترتفع الأصوات الداخلية والخارجية المطالبة بتطبيق مندرجات القرار الأممي 1701 الذي وافقت الحكومة اللبنانية لدى صدوره بالإجماع عليه بما فيها وزراء "الحزب". الأمر الذي يعني حكماً انسحاب "حزب الله" إلى شمال الليطاني وعملياً إمكانية تطبيق مضامين القرار الذي نصّ على تطوير اقتراحـــات لتطبیق بنود اتفاق الطائف ذات الصــــلة، والقـــــرارین 1559 و1680 ونــزع الســلاح.
إلّا إنّ "الحزب" المتمسّك بالحفاظ على الـ1701 يحاول التملّص من تطبيقه لإدراكه أنّ أيّ تنفيذ للقرار سيكون صارماً هذه المرة. فلا مجال لـ"ألاعيب" كجمعية "أخضر بلا حدود" التي تلطّى خلفها ليعمل بأريحية جنوب الليطاني أو كـ"غضب الأهالي" لتوجيه الرسائل لـ"اليونيفيل". "الحزب" تحجّج أنّ إسرائيل هي من يخترق الـ 1701 منذ اليوم الأول. لكن الرّدّ جاءه بأنّ هذه الخروقات ليست بجديدة وكان يغضّ النّظر عنها، كما لم تحل دون تطبيق القرار بخطوطه العريضة. تذرّع بأنّ هناك أراضٍ ما زالت محتلّة، فكان الجواب أنّ الأمر قائم منذ العام 2006 فلماذا رضي بالقرار؟ ولماذا لم يبادر طيلة هذه المهلة إلى تحريرها عسكرياً؟
الآن ثمّة بوادر، في خضمّ مساعي تثبيت الحدود البرّية التي يقوم بها الموفد الأميركي آموس هوكشتاين، بحلّ مشكلة النقاط الحدودية العالقة ومزارع شبعا وكفرشوبا. لذا لا يريد "الحزب" تطبيق الـ1701 مجّاناً، وينتظر انقشاع مشهدية حرب غزّة ليبني الإيراني على الشيء مقتضاه. من هنا يصرّ "الحزب" ألّا بحث في تطبيق القرار 1701 قبل انتهاء الحرب في غزة.
هذه "البدعة" هي "هرطقة" بامتياز. فلا رابط قانونياً بين الـ 1701 وحرب غزّة، ولا صفة لفصيل مسلّح بإجبار دولة بفعل الأمر الواقع على التملّص من تطبيق قرار أممي. أمّا سياسياً، كيف له متى أُلزمت إسرائيل على التطبيق العملي لبنود القرار بدءاً من حلّ المشكلة الجغرافية أن يرفض الالتزام ولبنان الرّسمي كما السياسي بسواده الأعظم يطالب بذلك من جهة، والمجتمع الدولي القلق من إمكان تفلّت الوضع يحضّ على ذلك من جهة أخرى؟ الأهمّ وطنيّاً والأخطر كيانيّاً، فرض ربط مصير لبنان بحرب غزة على الشركاء بالوطن هو إطاحة بالعقد الاجتماعي والميثاق الوطني القائم.