ظهّرت عملية طوفان الأقصى الفشل الإسرائيلي البنيوي بشكل كبير، علماً أنّ هذا الفشل بدأت تظهر معالمه خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982، والذي شكّل آخر مرّة تحقق فيها إسرائيل تقدّماً برّياً في الأراضي العربية، كما أنّه شكّل المرّة الأولى التي تنسحب فيها إسرائيل من أرض عربية من دون قيد أو شرط.
وإن كانت النجاحات الإسرائيلية السّابقة قد ارتبطت بصعود القوى الغربية، علماً أنّ المشروع الصهيوني ارتبط بالمشاريع الاستعمارية الفرنسية ثم البريطانية فالأميركية في المنطقة، فإنّ طور الفشل الذي دخل فيه هذا المشروع في المنطقة خصوصاً في العقدين الماضيين ارتبط ببدء تراجع الهيمنة الغربية على العالم مع صعود قوى دولية منافسة مثل روسيا والصين، وهو ما انعكس تراجعاً في أداء المشروع الصهيوني الذي يشكّل رأس حربة مشروع الهيمنة الغربية في منطقتنا وهو ما ناقشناه في المقالة السابقة.
هذا التعثّر الغربي أبرز التناقضات والمشكلات البنيوية في المشروع الصهيوني الذي قام منذ البداية على فرضيات خاطئة وأوهام غير مستندة إلى وقائع، معتمداً على التوراة في تفسير مشروع قومي لشعب متخيّل. من هنا فإنّ عدداً من المفكّرين والمؤرّخين الإسرائيليين بدأوا بمراجعة ونقد هذا المشروع وبنيته الوجدانية مثل بني موريس وإسرائيل شاحاك وايلان بابي.
وفي هذا الإطار كان لافتاً ما كتبه بابي في صحيفة فلسطين كرونيكل تعليقًا على عملية طوفان الأقصى، والدور الذي لعبته في إبراز التناقضات الإسرائيلية الى العلن. وإيلان بابي هو أستاذ في التاريخ في جامعة إكستر البريطانية، كان سابقًا محاضرًا كبيرًا في العلوم السياسية في جامعة حيفا. وهو مؤلّف كتاب "التطهير العرقي في فلسطين، والشرق الأوسط الحديث، وتاريخ فلسطين الحديثة: أرض واحدة، وشعبان، وعشر أساطير حول إسرائيل". وهو المحرر المشارك مع رمزي بارود لكتاب "رؤيتنا للتحرير". يوصف بابي بأنّه أحد "المؤرّخين الجدد" في إسرائيل الذين، منذ نشر الوثائق الحكومية البريطانية والإسرائيلية ذات الصلة في أوائل الثمانينيات، أعادوا كتابة تاريخ إنشاء إسرائيل في عام 1948.
ويعتبر إيلان بابي أنّ أهمّ مشكلة تبرز في المشروع الصهيوني هو أنّ أرض فلسطين لم تكن خالية من السكّان، كما صور قادة الحركة الصهيونية آنذاك. وهو يقول إنّه "لو كان الأمر كذلك، لكان من المحتمل جدًا أن يكون اللاجئون اليهود الذين يشقّون طريقهم إلى تلك الأرض الفارغة قد بنوا مجتمعًا مزدهرًا، وربما وجدوا طريقة لتفادي معاداة العالم العربي."
كلّ هذه الدماء التي تسيل لن تمنع إسرائيل التي قامت على فرضيات وهمية، وعلى كونها كياناً وظيفياً كرأس حربة للهيمنة الغربية من التفكّك والزوال.
ويضيف بابي إنّ قادة الحركة الصهيونية في القرن التاسع عشر كانوا يعرفون جيداً أن أرض فلسطين مأهولة، إلّا أنّهم كانوا عنصريين ومستشرقين للغاية، مثل بقية أوروبا، لدرجة أنّهم لم يدركوا مدى تقدّم المجتمع الفلسطيني الذي كن يمتلك نخبة حضرية متعلّمة ومسيسة، ومجتمع ريفي يعيش في سلام ضمن نظام حقيقي من المشاركة والتضامن.
ويؤكّد بابي أنّ المجتمع الفلسطيني كان على عتبة الحداثة، مثل العديد من المجتمعات الأخرى في المنطقة، حيث يمتزج التراث بالأفكار الجديدة. وكان من الممكن أن يكون هذا هو الأساس لهوية وطنية ورؤية للحرية والاستقلال على نفس الأرض التي سكنوها لعدّة قرون.
لقد كان مؤكّدًا أنّ الصهاينة كانوا يعرفون مسبقًا أنّ فلسطين هي أرض الفلسطينيين، لكنّهم نظروا إلى السكان الأصليين باعتبارهم عقبة ديمغرافية يجب إزالتها حتّى ينجح المشروع الصهيوني لبناء دولة يهودية في فلسطين.
هكذا دخلت العبارة الصهيونية "قضية فلسطين" أو "مشكلة فلسطين" إلى المعجم السياسي للسياسة العالمي. وفي نظر القيادة الصهيونية، لا يمكن حلّ هذه "المشكلة" إلّا عن طريق تهجير الفلسطينيين واستبدالهم بمهاجرين يهود. علاوة على ذلك، كان لا بد من انتزاع فلسطين من العالم العربي وتحويلها إلى موقع أمامي يخدم تطلّعات الإمبريالية والاستعمار الغربيين للسيطرة على الشرق الأوسط ككل.
إلّا أنّ السكّان الأصليين للبلاد رفضوا عرض الرحيل إلى بلدان أخرى، كما كان يأمل تيودور هرتزل، وهم كانوا يأملون في أن تفي بريطانيا بوعودها التي أطلقتها خلال الحرب العالمية الأولى بتحقيق مطالب الفلسطينيين والعرب بوطن قومي لهم. لكن بحلول الثلاثينيات من القرن الماضي، أدرك قادة المجتمع الفلسطيني زيف الوعود البريطانية. لذلك، تمرّدوا، ليتم سحقهم بوحشية من قبل الإمبراطورية التي كان من المفترض أن تحميهم، وفقًا لـ "التفويض" الذي تلقّته من عصبة الأمم. كما وقفت الإمبراطورية موقف المتفرّج عندما ارتكبت حركة المستوطنين عملية تطهير عرقي ضخمة في عام 1948، ممّا أدى إلى طرد نصف السكان الأصليين خلال النكبة.
لكن بعد النكبة، كانت فلسطين لا تزال مليئة بالفلسطينيين، ورفض هؤلاء المطرودون قبول أي هويّة أخرى وقاتلوا من أجل عودتهم، كما يفعلون حتّى يومنا هذا. واستمر أولئك الذين بقوا في فلسطين التاريخية في إثبات أنّ الأرض لم تكن فارغة، وأنّ المستوطنين بحاجة إلى استخدام القوّة لتحقيق هدفهم المتمثّل في تحويل فلسطين العربية والإسلامية والمسيحية إلى دولة يهودية أوروبية. ومع مرور كلّ عام، هناك حاجة إلى استخدام المزيد من القوّة لتحقيق هذا الحلم الأوروبي على حساب الشعب الفلسطيني.
ويعتقد إيلان بابي أنّه بحلول عام 2020، كانت إسرائيل تحتفل بمرور مئة عام من المحاولة المستمرّة لتنفيذ رؤية تحويل "الأرض الفارغة" إلى كيان يهودي بالقوّة. لكن بنتيجة وجود عدد كبير من الفلسطينيين يقدّر الآن بثمانية ملايين، موزّعين بين الضفة الغربية وغزة والأراضي المحتلة عام 1948، فإنّ إسرائيل وجدت نفسها مضطرّة لمواصلة حروب الإبادة والترانسفير للتخلّص من الشعب الفلسطيني، بالاستناد إلى الدعم المالي الكبير والمتواصل من قبل الولايات المتّحدة الأميركية. وهو يرى أن العنف الكبير الذي لجأت إليه القوات الإسرائيلية في غزّة مبرّر بالنسبة لقادة الحركة الصهيونية. فوفقاً لمنطقهم "كان لا بد من استخدام ذخيرة غير مسبوقة من الوسائل العنيفة والوحشية بشكل يومي ضدّ الفلسطينيين، وقراهم ومدنهم، أو قطاع غزة بأكمله، من أجل الحفاظ على الحلم الصهيوني."
بنتيجة ذلك فلقد كانت التكلفة البشرية التي دفعها الفلسطينيون حتّى الآن في الجولة الأخيرة من الصراع "مقابل هذا المشروع الفاشل" هائلة، وتبلغ حوالي 100 ألف ضحية بين قتيل وجريح حتّى الآن. وإنّ عدد الفلسطينيين المصابين بصدمات نفسية مرتفع للغاية لدرجة أنّ كلّ أسرة فلسطينية ربما يكون لديها فرد واحد على الأقل، سواء كان طفلاً أو امرأة أو رجلاً، يمكن إدراجه في هذه القائمة.
ويرى إيلان بابي أنّ هذه هي الخلفية لسياسة الإبادة الجماعية التي تنتهجها إسرائيل الآن في غزة، وحملة القتل غير المسبوقة في الضفّة الغربية. إلّا أنّه يعتقد أنّ كلّ هذه الدماء التي تسيل لن تمنع إسرائيل التي قامت على فرضيات وهمية، وعلى كونها كياناً وظيفياً كرأس حربة للهيمنة الغربية من التفكّك والزوال. إلّا أنّ تفكّكها قد يكون عملية طويلة ودموية للغاية، وسيكون الفلسطينيون ضحاياها الرئيسيين. ويجزم إيلان بابي بأنّ جيلاً جديداً من الفلسطينيين سيولد ليقود حركة تحرّر وطنية فلسطينية لمواجهة المشروع الصهيوني، ويحلّ محلّ قيادة فلسطينية متهالكة وعاجزة متمثّلة بمحمود عباس أبو مازن وسلطته الفلسطينية.