يحلّ عيد الميلاد هذا العام وأرض بيت لحم، القرية التي ولد فيها المسيح ملطّخة بدماء أطفال غزّة التي فتكت بها غارات الجيش الإسرائيلي، فيما الجنوب اللبناني هُجّر من أهله، والأراضي الزراعية خسرت موسمها بعد أن أشبعها العدو قصفاً بقنابل الفوسفور المحرّم استخدامها دولياً. وعلى الرّغم من المآسي الإنسانية التي تشهدها فلسطين والجنوب اللبناني، يبقى عيد الميلاد عيد الرجاء بولادة المسيح المخلّص، والإيمان بأنّ السلام قادم والأمل بأنّ الغد سيكون أفضل، مهما اشتدّت الصعاب وكثر الشر والقتل في العالم، فلولا الإيمان والتمسّك بسياسة الحياة لما تمكّن بلد القديسين من الصمود على مرّ التاريخ.
دور البلديات
وإلى ذلك، نشرت البلديات اللبنانية زينة الميلاد على طرقات بلداتها، ولو أنّها نفس الزينة التي اعتدنا عليها كلّ عام، بسبب الأزمة الماليّة التي تمرّ بها السلطات المحلّية مع محدوديّة التمويل واستحالة تأمين زينة جديدة، فلو تأمّنت الأموال هناك 100 أولوية تأتي قبل زينة الأعياد. وأحيت كلّ من مناطق الأشرفية وجبيل والبترون سوق الميلاد في شوارعها، وأضاءت الشجرة في ساحاتها، في محاولة لمقاومة الحزن وبشاعة الواقع، والإصرار على عدم الاستسلام. وتميّزت الأشرفية هذا العام، بإعطاء فرصة للعارضين في سوق الميلاد، بعرض منتجاتهم لـ3 أيام مجاناً، على أن يبدّلوا مع عارض آخر بعد انتهاء المهلة، وهي خطوة جديرة بالشكر، تسمح لأصحاب المؤسّسات الناشئة والأعمال الحرفية الصغيرة بالتسويق لنفسهم، وبيع منتجاتهم دون تكبّد تكلفة استئجار كشك. أمّا البترون "فقطفتها" هذا العام، بزينتها الساحرة، التي خطفت قلوب اللبنانيين، وجذبت السوّاح والمغتربين إليها، فحرّكت بسوقها la capitale de noel، العجلة الاقتصادية في المنطقة. وجبيل، وكما عوّدتنا في كلّ عام، افتتحت سوقها الميلادي بأجواء من الفرح وعروض غنائية وترفيهية، لتلقي بأجوائها الإيجابية على الحاضرين وتعيد الأمل للأهل والبسمة على وجوه الأطفال.
الأسواق الميلادية
نائبة رئيس جمعية تجار البترون، لويزا باسيل، ,في حديث لموقع "الصفا نيوز"، تقول "كجمعية تجار البترون وبلدية البترون ومجتمع مدني، نهتمّ جدّاً بأصحاب المشاريع الصغيرة الـ small businesses التي بأمسّ الحاجة إلى المساعدة في الظروف الاقتصادية الصعبة، وهذا هو السبب الكامن وراء هذه المشاريع التي نقوم بها بشكل منتظم على عدّة مواسم طوال العام. وهذه المشاريع لا تكون فقط في قطاع البترون، بل تشمل مناطق من كل لبنان كزحلة والشوف وغيرها. ونسعى لأن يكون هناك نشاطات ترفيهية لتفعيل العجلة الاقتصادية، ونحيي نشاطات سياحية وتثقيفية لجذب الناس ودفعهم إلى التسوق".
وعن الصعوبات التي واجهتهم هذا العام تلفت إلى أنّ "عدد الـ sponsors أو الممولين للمشروع هذا العام كان قليل، أقلّ من السنوات الماضية. إلّا أنّ المشروع شقّ طريقه إلى النجاح، وجذبت بلدة البترون الأنظار إليها، وجميع العارضين تمكّنوا من الاستفادة والتسويق لبضاعتهم، ولاسم مشاريعهم، حيث أنّ الاقبال كان كبيراً هذه السنة من مختلف الأعمار والمناطق اللبنانية. أمّا الأسعار فكانت مدروسة، كما إيجارات العارضين حيث راعينا قدر الإمكان الوضع الاقتصادي، وجعلنا إيجارات الأكشاك تتناسب وقدرة كل عارض وهي تبدأ من 250 دولار على مدة 36 يوماً. كما حرصنا على أن تكون الأولوية للعارضين البترونيين، حيث فضّلنا عدم إدخال عارضين منافسين يبيعون نفس المنتج، في محاولة لجعل جميع الناس تستفيد، وضمان التنويع في المعروض".
كما أنّ الاقبال الكثيف، تتابع باسيل، "شجع الناس على الدخول إلى الأسواق التجارية، ما عاد بالفائدة أيضا على أصحاب المحلات التجارية في البترون، وليس فقط العارضين في السوق الميلادي".
والرسالة وراء هذا العمل، تضيف باسيل هي "أهمّية التعاون والتضامن والتكافل بين المواطنين خصوصاً في ظلّ هذه الأوضاع الاقتصادية الصعبة والقاسية التي يمرّ بها جميع المواطنين اللبنانيين".
وتكشف أيضا عن مشروع ثان "قمنا به في 3 كانون الأول وهو تشجيع أصحاب المطاعم على التبرّع بمبلغ معيّن من أرباحها لتوزّع على عدد من الطلاب في مدارس البترون لمساعدتهم على تسديد جزء من أقساطهم المدرسية".
مبادرات شبابية
وفي الإطار نفسه، بادرت بعض الحركات الشبابية، في عدّة مناطق لبنانية، إلى إحياء نشاطات ميلادية، بدءاً بجولة على البيوت، مع الدف والطبل والدربكة، مرتدين ملابس بابا نويل، ومنشدين أغاني الميلاد وبعض التراتيل الميلادية، ووصولاً إلى توزيع المساعدات والهدايا على الأسر والأطفال في إصرار على بثّ الفرحة في قلوب أهل منطقتهم.
وهو ما أكده جورج شمعون، عضو في رابطة الأخوّة في رعية مار تقلا في سدّ البوشرية، في حديثه لموقع "الصفا نيوز" موضحا أنّه "كان للرابطة عدّة نشاطات هذا العام بمناسبة عيد الميلاد، منها غداء الأسر، والذي يضم أسر تبنّتهم الرعيّة وتهتمّ بهم على مدار السنة، ونوفّر لهم الأدوية، وتشملهم في زياراتها الروحية، وتلبّي حاجاتهم الأساسية على مدار العام، وشمل الغذاء 100 شخص، من هذه الأسر، 30 طفلاً و70 رجل وامرأة كبار في السن، كما زرنا عدداً كبيراً من الأسر في المنطقة، ووزعنا عليهم الهدايا، والحصص الغذائية، والتي جمعناها في وقفات نظّمناها على أبواب المتاجر الكبرى، أمّا الهدايا فاشتريناها من مالنا الخاص كأعضاء في الرعية، وأمّنا 25 هدية لـ25 طفل. كما أحيينا ريسيتال ميلادي مجاني في الرعية لاقى اقبالاً واسعاً من أهالي المنطقة وجوارها. كما قمنا بجولات على الطرقات أنشدنا فيها الترانيم الميلادية، في محاولة لإعادة الفرح والأمل والإيمان إلى قلوب أهالي المنطقة".
ولفت شمعون إلى أنّ "الصعوبات التي واجهناها كانت الخوف من ألّا نتمكّن من تجميع السلع الغذائية المطلوبة للأسر، خصوصاً أنّ من تبرّع بهم هم مواطنون يعانون بدورهم من الأزمة الاقتصادية. إلّا أنّه وبفضل الله لاقى المشروع تجاوباً كبيراً، حيث تمكّنا بأقلّ من 6 ساعات من تأمين الحصص الغذائية للأسر المحتاجة، وتفاجأنا بإقبال الناس وهمّتهم لتقديم المساعدة. أمّا تأمين الهدايا فلم يكن بالأمر السهل، لكوننا طلاب جامعات ورواتبنا متواضعة ونحاول تسديد أقساط جامعاتنا من الراتب الشهري، إّلا أنّه وبفضل مساهمة الجميع ومباركة الله، تمكّنا من شراء الكمّية المطلوبة من الهدايا لإسعاد الأطفال. كما أنّ تأمين المواصلات لتوزيع الأكل لم يكن بالأمر السّهل إلّا أنّ حجم التبرّع كان قوياً جداً. وفعلا تفاجأنا كم أنّ النّاس لا تزال مستعدّة للتبرّع والعطاء دون مقابل ومساعدة غيرها، فمنذ أن أطلقنا الصوت كان التجاوب واسع وكبير جدا".
وعن هدف رسالتهم، يجيب، نحن بالدرجة الأولى كمسيحيين، نرى المسيح بالنّاس التي هي بأمسّ الحاجة للمساعدة، فيما شفيعتنا هي الأم تريزا التي نتمثّل فيها والتي اهتمت بأفقر الفقراء وأعطت بحب، ونتمنّى أن نمشي على خطاها".
اعتماد سياسة التقشف
في السياق ذاته، يتحضّر اللبنانيون بفرح وغصّة، لاستقبال عيد الميلاد، بزينة متواضعة، تناسب مدخولهم، في ظلّ الأزمة الاقتصادية المستمرّة في عامها الرابع. حيث أنزلوا شجرة الميلاد وأشخاص المغارة، مكتفين بما تبقّى منها، لعدم قدرتهم على شراء زينة جديدة. فسعر أرخص شجرة ميلاد يبدأ من 15 دولار، حوالي المليون وخمسمئة ألف (الحجم الصغير) ويتخطّى الـ 100 دولار حوالي العشرة ملايين ليرة، (الحجم الكبير. أمّا الزينة فتتراوح أسعارها بين الـ 5 والـ 10 دولار، أي بين الـ 500 ألف والمليون مقابل كلّ 6 "بولات"، دون احتساب الإنارة وغيرها. فيما أشخاص المغارة فتتراوح بين الـ 5 والـ 20$، أي الـ 500 ألف والمليونين ليرة. لتصبح تكلفة شراء شجرة جديدة وزينة ومغارة بحدود الـ 60 دولار، أي 6 ملايين ليرة، فيما الحدّ الأدنى للأجور 9 ملايين ليرة! (إذا ما اعتمد الشاري سياسة التقشف واكتفى بأرخص الأسعار).
أمّا الهدايا هذا العام، فـ"علقد"، حيث أنّ الوضع المادّي لا يسمح بالتبذير، إلا أنّه وعلى الرغم من ذلك حرصت العديد من الأسر على شراء الهدايا ولو من متاجر رخيصة، لضمان أن يكون لكل ّفرد حصّته ونصيبه من العيدية. وهنا تجدر الإشارة إلى قيام بعض المتاجر لا بل عدد كبير منها في مناطق كسدّ البوشرية وبرج حمود، والدكوانة، بتخفيض أسعارها بشكل يتناسب ووضع اللبنانيين، في مبادرة طيبة، تضمن لأصحاب المتاجر بتحقيق بعض الأرباح وللمواطنين بشراء الهدايا خصوصاً لأولادهم.
وفيما تقوم بجولتك داخل هذه الأسواق، تجد العديد من المتاجر، التي قرّرت وضع إضاءة وزينة على واجهة محلاتها، مع مكبرات للصوت، تعرض عليها أغاني العيد، من الساعة 11 صباحا وحتى الثامنة مساء، في محاولة لبث الطاقة الإيجابية في الأحياء.
من جهتها، تقول ميرنا عبد المسيح، أمّ لـ 3 أولاد، تعمل في شركة أدوية، في حديثها لموقع "الصفا نيوز"، "يأتي العيد هذا العام، وفي قلبنا وجع، وحزن لما يحصل لأطفال غزّة، ولعجزنا عن الاحتفال بسبب الوضع الأمني والاقتصادي الحسّاس. إلّا انّ زوجي وأنا حاولنا ما بوسعنا لإحياء فرحة العيد بقلوب أولادنا وفق قدرتنا المادية. فهذا العام سنحتفل مع أسرتنا الصغيرة، فقط، ولن نتمكّن من جمع الأقرباء على طاولة واحدة، بسبب الكلفة المرتفعة لتحضير مائدة عشاء للأسرة كلّها. كما أنّنا سنكتفي ببعض المعجنات، والتبولة، مع الرز على الدجاج، والمشروبات الغازية، وللأسف لا "بوش" هذا العام فأرخص قالب يبدأ من 15$ أي قرابة الـمليون والخمسمئة ألف ليرة. فيما العيد وحتى الآن كلّفنا بحدود الـ300 دولار أي أكثر من 30 مليون ليرة. فيما راتبي لا يتخطى الـ400 دولار وراتب زوجي لا يتخطى الـ500 دولار. وهنا لم نذكر المصاريف الشهرية بعد من فواتير كهرباء دولة ومولدات وأنترنت وبنزين وطعام".
في المحصلة، يبدو أنّ الميلاد هذا العام صعب حقاً، ويكاد يصعب الشعور به لولا هذه المبادرات الجميلة والمتواضعة التي تحمل بطيّاتها إصراراً وعزيمة على إبقاء روح الميلاد حيّة داخل قلب كلّ لبناني.