فجأة لم يعد حجم الخسائر في الأرواح أو الممتلكات عند الحدود الجنوبية اللبنانية هو المقياس، لم يعد سقوط الصحافيين كما سقوط القذائف في المناطق المأهولة هو المسألة. المهم هو ضبط النفس على جانبنا من الحدود والرهان على قدرة واشنطن وأخواتها على وقف الجنون عند الجانب الآخر. وهو ضبط ليس بالضرورة أن ينسحب على قطاع غزة أو الضفة الغربية، فالرّاعي الرسمي لمنع وقف الحرب الإسرائيلية على حماس وغزة وبـ"فيتو" أممي، أقصى ما يمكن أن يوافق عليه هو إدخال مساعدات إنسانية إلى القطاع من دون وقف للحرب.
ترتفع بعض الأصوات في الدّاخل اللبناني ترفع لواء الأمم المتحدة ومجلس الأمن والقرارات الدولية، يخال المرء للوهلة الأولى أنّنا لا نعيش حرباً طاحنة في غزة قضت إسرائيل خلالها على أكثر من 20 ألف ضحية بينهم 8 آلاف طفل. ولا يبدو من تأثير لمشهد المندوب الأميركي وهو يصوّت ضدّ قرار وقف إطلاق النار. وينسى بعض اللبنانيين أن القرار 425 الصادر عن مجلس الأمن في العام 1978 لم تنفذه إسرائيل ولم تلتزم به حتى العام 2000، ولا داعي للخوض في الأسباب التي دفعتها إلى الرضوخ له، يكفي أنّها تأخّرت عن تنفيذه طوال هذه السنوات من دون أن يترتّب على هذا الأمر أيّ إجراء حقيقي بحقّها. ولا داعي للحديث عن السيادة الوطنية والحق في مقاومة الاحتلال حتى تحرير الأرض، فهذه المسألة تثير حساسية دول الاحتلال الجديد.
وفي الشأن الفلسطيني وحين يحضر السؤال عن أسباب ما حصل في 7 تشرين الأول، يتمّ تحميل الفلسطينيين مسؤولية الهجوم على مستوطنات غلاف غزة، من دون الإشارة إلى أن هذه المستوطنات نفسها تخالف قرارات الأمم المتحدة التي قالت بحلّ الدولتين. وهو قرار صدر منذ العام 1967 ويكفي النظر اليوم إلى ما كانت عليه تلك الأراضي التي دعت الأمم المتحدة إسرائيل للانسحاب منها في سبيل السماح للفلسطينيين بإقامة دولتهم الخاصة، وما باتت عليه اليوم. وهي مخالفة واضحة وصريحة لقرارات الشرعية الدولية تمرّ من دون عقاب أو مساءلة. حتى الإدارات الأميركية المتعاقبة التي توفّر لإسرائيل كلّ الدعم والتمويل لعملياتها الحربية، لطالما طالبتها بتطبيق حلّ الدولتين ولكنها مطالبة أقرب إلى التمنّي الخجول.
يظهر بوضوح اليوم أنّ مجلس الأمن أصبح مجلس العجز عن تحقيق أي إنجاز على صعيد السلام العالمي حين يتعلّق الأمر بدولة عضو فيه. وبات من الضرورة البحث عن إطار يعتمد على القيم الإنسانية لتحقيق الأمن العالمي بتضافر الشعوب وتلاقيها بدل الاعتماد على قوّة الأنظمة وترساناتها الحربية وبطشها. حرب غزة نجحت في تظهير صورة النظام العالمي الحقيقية والدول الكبرى التي لا ترى الشعوب إلّا ساحات حرب ونفوذ أو أسواق تصدير أو كمصادر للمواد الأوّلية والطاقة.
مجلس الأمن أصبح مجلس العجز عن تحقيق أي إنجاز على صعيد السلام العالمي حين يتعلّق الأمر بدولة عضو فيه
اعترف البعض أم لم يعترف، نسي البعض أو تناسى، في حرب تموز في العام 2006 فشل مجلس الأمن أكثر من مرة بوقف العدوان الإسرائيلي على لبنان بفضل "الفيتو" الأميركي نفسه، ولم يكن للحرب أن تتوقّف لولا حجم الخسائر التي تكبدتها القوات الإسرائيلية في غزوها البرّي للبنان، وما جرى في وادي الحجير مقبرة دبابات "الميركافا" هو ما غيّر المعادلة.
تتواصل الحرب الإسرائيلية على المدنيين في قطاع غزة حاصدة كل يوم المزيد من الضحايا ويعجز العالم والمنظمات الدولية المعنية في وقف الحرب وحتى في إدخال المساعدات الإنسانية. تتواصل الحرب ونتابعها على الشاشات رغم الاجتزاء والتضليل والتعتيم ما يصلنا من مشاهد تترك ندوباً وضرراً نفسياً بمستويات تتراوح بين فرد وآخر، ولكن هل هي معدومة عند بعض البشر؟
على وقع أصوات القذائف وصراخ الضحايا في غزة، ومع تزايد مشاهد الغارات الإسرائيلية ضدّ القرى الحدودية في جنوب لبنان، يحضر الحديث عن مفاوضات دولية على أكثر من خطّ وبين أكثر من عاصمة بهدف التوصّل إلى تسوية. ويبقى الأمل أن تنتهي التسويات إلى سلام مستدام لا إلى محطات في مسار القضاء على حق الشعوب المستضعفة.
كيف يمكن أن يتعامل الإنسان فينا مع طفل يموت جوعاً في زمن ميلاد من قال: "دعوا الأولاد يأتون إليّ ولا تمنعوهم لأنّ لمثل هؤلاء ملكوت السماوات". في ذكرى ميلاده وفي أرض ميلاده يحصل ما يحصل من مجازر ومن استهداف لكنائس ومساجد من قتل للمصلّين والآمنين. ألم يحن الوقت لانتفاضة إنسانية جديدة ضد تجّار الهيكل، هؤلاء الذين لا يقيمون وزناً للأرواح وكلّ ما يشغلهم مشروع استيطاني أرادوه من أجل مصالحهم ونفوذهم وسطوتهم ولو على حساب أهله وأبنائه.
وفيما تختلط الدماء بالأمطار لترتوي الأرض بكل هذا الحزن، يأتي ما يؤكّد على الحق في وجه من قتلوا الأطفال في ليلة الميلاد وفي أيامنا هذه، تحلّ ذكرى ميلاد يسوع المسيح مع كلّ ما تعنيه وما ترمز إليه، لا بدّ من قيامة في فلسطين. وما بين قانا في جنوب لبنان وبيت لحم وصولاً إلى غزّة قصة أرض قداسة ستزهر حرية وإنسانية ورخاء، ستتحطّم الأغلال وسيندحر الغزاة.