لم يكن لبنان يوماً دولة مستقلّة طالما لم تنل فلسطين استقلالها. كان استقلاله واستقراره مرهونين دوماً بحلّ القضية الفلسطينية بما يرضي المشروع الإسرائيلي ولو لم يكن مشروعاً.
ثمانون مرّت على إعلان استقلال وطن لم يعرف طريقه إلى الاستقلال الحقيقي إلّا في مناسبات قليلة. هو عيد يحتفل به بعض اللبنانيين دون غيرهم على اختلاف توزّع هؤلاء جغرافياً وطوائفياً، أمّا البعض الآخر فلم يخرج على ما يبدو من مشاريعه للالتحاق بالعالم الإسلامي مقابل آخر يحلم بالعالم الغربي، أو حتى بالقومية العربية بعدما سقط مشروع الوحدة إلى غير رجعة.
الاستقلال هو ثمرة نضال شعبي جامع يبذل أبناء الوطن بمختلف انتماءاتهم الغالي والرخيص من أجله. يصيغون معاً من خلال ممثليهم وقياداتهم دستوره وقوانينه، ومعاً يحدّدون العدو من الصديق وماهية المصلحة الوطنية العليا وطبيعة النظام. وها نحن في هذا الوطن نفاخر بالانتماء إلى أرضه ونتقاتل حول كل الأمور الباقية من طبيعة نظامه إلى عدالته فتموضعه فكل شأن فيه كبر أو صغر.
لا يمكن الحديث عن استقلال في ظلّ سلطات ونصوص وقوانين تعجز عن حلّ أبسط المشاكل، فكيف بالمعضلات المصيرية. كيف يكون استقلال ونحن ننتظر أن ينتهي العالم من حرب غزة ليتفرّغ لحلّ مشكلتنا الرئاسية، هذا إذا تجاهلنا مشكلتنا المالية والاقتصادية وحتى إن بقينا على عتم فمشكلة الكهرباء لم تبصر النّور، وكأنهّا أحجية استعصت على أكبر العقول في وطن الأرز والمنتشرين حول العالم من أبنائه. ننتظر الانتخابات الرئاسية الأميركية كما انتخابات الكونغرس ويعدوننا بتغيير مع انتخاب رئيس جديد لإيران أو تغيير في نظام الحكم في دمشق. ونِعْم الاستقلال.
لا يمكن الحديث عن استقلال في ظلّ سلطات ونصوص وقوانين تعجز عن حلّ أبسط المشاكل، فكيف بالمعضلات المصيرية.
استقلال ماذا ونحن ننتظر أن تتكرّم علينا الأسرة الدولية لتحرّر أرضنا في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا من الاحتلال الإسرائيلي، فما بالك إذا قرّرنا مطالبة إسرائيل بالتعويض عن الخسائر التي ألحقتها بالأراضي الزراعية والأشجار المعمرة والبيوت وليس آخراً الضحايا المدنيين الذين قتلتهم. أهو استقلال فعلاً ذاك الذي تختبئ خلفه السلطة اللبنانية لتكتفي ببيانات الإدانة بوجه جيش معاد لا يوفّر فرصة إلّا ويعتدي بها علينا؟ هل يمكن أن تسمّى الدول العاجزة عن حماية أرضها بوجه أيّ اعتداء دولاً مستقلّة؟ كيف يكون الاستقلال والدّولة أعجز عن حلّ مشكلة النازحين السوريين على أرضها خوفاً من غضبة الدول الكبرى؟
ثمانون مرّت وكان لبنان ولا يزال صندوق بريد أو ساحة حرب تنتظر التسويات الكبرى لكي يدفع ثمنها مراراً وتكراراً. لم يكن لبنان يوماً دولة مستقلّة طالما لم تنل فلسطين استقلالها. كان استقلاله واستقراره مرهوناً دوماً بحلّ القضية الفلسطينية بما يرضي المشروع الإسرائيلي ولو لم يكن مشروعاً، وها هو ينتظر مجدّداً ما ستنتهي إليه الحرب في غزة على المستوى الاستراتيجي المحلي والإقليمي فالدولي. إنه مسار لبناني بدأ مع مؤامرة الوطن البديل إلى قوة لبنان في ضعفه من خلال عدم تسليح الجيش اللبناني ليقدر على حماية حدوده بوجه دولة نووية تقف خلفها داعمة أساطيل الغرب وجيوشه، وصولاً إلى الحرب الأهلية مروراً بالاجتياحات والحروب والاغتيالات التي لم تتوقّف يوماً.
لا استقلال بدون قوّة، هذا واقع الحال الذي أكّدته حرب غزّة بما لا يترك مجالاً للشكّ. فهل بقي هناك من يعوّل على دورٍ للأمم المتّحدة ومجلس الأمن والمنظّمات الدولية حين يتعلّق الأمر بدولة كبرى، أو دولة تحظى بدعم كلّ هذه الدول القادرة على منع أيّ قرار أممي من التنفيذ ولو على حساب دماء عشرات آلاف الأطفال والنساء وكبار السنّ.
هو استقلال نرغب به للوطن عن السلطات التي أمعنت في تخريبه، تدميره، رهنِه وإفلاسه. هو استقلال الإنسان بكل ما تعنيه كلمة إنسان عن البطش الذي تمثّله الدول القويّة والقادرة على سحق تطلعات وآمال الشعوب الضعيفة من فلسطين إلى لبنان مروراً بكل أصقاع الأرض.
هو أكثر من أغنية واحتفال ذات يوم من أيام السنة، إنّه فعل إيمان وحياة وممارسة على مدى العمر وعلى كامل الحدود، فأي دولة لديها أرض محتلة وغير قادرة على اتخاذ قرارات مصيرية ولا تملك أن تقرر ما فيه مصلحة البلاد والعباد لا يمكن أن تكون مستقلة.
وكما كان هذا الاستقلال منذ إعلانه منغّصاً باحتلال من هنا ووصاية من هناك أو مديونية وانهيار من هنالك، ها هو اليوم يطلّ عابقاً برائحة دماء صحافيين ومواطنين لبنانيين سقطوا في الجنوب ومثلهم فلسطينيين في جنوب الجنوب. وعلى وقع طبول الحرب عندنا وأصداء قذائفها وغاراتها وأصوات ضحاياها من خلف حدودنا، تحضر أصوات تخبرنا عن ضرورة اللجوء إلى الأمم المتحدة والركون إلى قرارتها، رغم أنّ أغلبها لم تعره إسرائيل يوماً أيّ التفاتة، حتّى أنّها أعلنت صراحة أنّها لا تعبأ بها.
قبل يومين قتلت إسرائيل صحافيين اثنين مع مرافقهما، وقبلها قتلت مصوراً صحافياً وأصابت صحافيتين بجروح، وقبلها قتلت أسرة كانت على متن سيارة مدنية وأخرى في منزل هدمته فوق رؤوس أصحابه، هنا في دولة لبنان التي استقلّت قبل 80 عاماً. فكيف تصرّفت دولة لبنان المستقلّة حيال هذا العدوان أو رداً على التهديدات المستمرة وعشرات آلاف الاعتداءات والخروقات لكلّ القرارات الدولية من جانب إسرائيل؟ أي استقلال هذا والدولة لا تملك قدرة رد العدوان أو التصدّي لاعتداء ممن يحتلّ أرضها التي تعجز عن تحريرها رغم كل القرارات الدولية والمواقف والتصريحات. حزين هذا الاستقلال يصبح حين تترجمه إلى أفعال بعيداً عن الرومانسيات والتمنيات والإحساس العالي بالانتماء للوطن.
ثلاثة هي: حرية، سيادة، استقلال. فهل ما يؤكّد فعلاً تحقّق هذه العناوين. ليكون لبنان الوطن فعلا مستقلاً وليحتفل باستقلاله الناجز.