من أين يأتين هنَّ بكلّ هذه القوّة؟ فرح ومن سبقها من النساء، كيف يتحولّن بلحظة من نساء بأجساد نحيلة إلى هدف لأعتى جيوش الأرض.
على بعد زمني يلامس الـ80 عاماً وفعلي يقارب الـ100 سنة ضوئية، تتوالى النكبات على أكثر من ذي صعيد، وربما لولا المُذكّرة التي تصدر عن الأمانة العامّة لمجلس الوزراء بإقفال المؤسسات والدوائر الرسمية في الثاني والعشرين من تشرين الثاني من كلّ عام إحتفالاً بذكرى عيد الإستقلال، لكان عدد كبير من المواطنين ما تذكّروا المناسبة، ليس انتقاصاً من قيمتها الوطنية إنّما لأنّ الأولويات المعيشية والأحداث المترافقة معها هذه السنة في مكان آخر، حيث تمعن اسرائيل في همجيتها المُمتدّة من غزّة إلى طول الحدود اللبنانية، وتترصّد وتتقصّد استهداف المدنيين والأبرياء العُزّل، حيث كانت آخر صيحاتها الوحشية قتل الزميلة الصحافية فرح عمر والزميل المصور ربيع المعماري.
وعلى وقع حدث من هذا النّوع وعلى الرّغم من أنّه ليس بجديد، إلّا أنَّ السؤال الذي تعجز النّفس عن الإجابة عليه منذ استشهاد الزميل حمزة الحاج حسن وحليم علوه ومحمد منتش عام 2014، عندما كنت أخط أولى الكلمات في دراسة هذه المهنة ما يزال نفسه ومن دون جواب. إلى أي درجة من الشغف يكون الصحافي عليه لينال شرف الموت في سبيل هذه المهنة؟ ليتبدّل السؤال أخيراً مع استشهاد الزميل عصام عبدالله بالأمس القريب وبعده فرح وربيع، لماذا هم ولست أنا؟ ويتغلّف بالكثير الكثير من "الحسد"، نعم "الحسد" بلا تردّد، فكم هو تافه ما نُقدم على كتابته من خلف هذه الشاشات اللعينة رغم كثرته أحياناً والمترافق مع طول الدوام حتّى وقت متأخّر من الليل. يبدو أنّ القصة ليست بالهالات السوداء التي ترتسم تحت العيون أحياناً بفعل السهر، بل هي "أحجية" من نوع خاص، سهلة ممتنعة ولكنها ما تزال مبهمة حتى هذه اللحظة، أقلَّه من قبلي.
في رحيل فرح وقبلها شيرين ابو عاقلة وإصابة كارمن جوخدار بالإضافة إلى أخريات على طريق هذه المهنة، تعترينا نحن الشباب الكثير من الذكورية ومهما أظهرنا من الدعم لمبدأ المساواة بين الجنسين التي ما تنفك النساء بالمطالبة به، إلّا أنّنا نرفضه هنا تحديداً حيث لا يليق بهنَّ الاستهداف ولا بأجسادهن، فنحن أصلب بنيوياً وبالتالي نحن أحقّ بالإصابة والموت، ولكن وحشية اسرائيل لا تفرّق بين ذكر وأنثى. ترى من أين يأتين هنَّ بكلّ هذه القوّة؟ فرح ومن سبقها من النساء كيف يتحولّن بلحظة من نساء بأجساد نحيلة إلى هدف لأعتى جيوش الأرض بعديدها وعتادها وحتّى مسيراتها، وهل هذا بقليل؟! خصوصاً وأنّ اسرائيل تعرف جيداً وبكثير من الدقّة من تغتال وأيّ بقعة صغيرة من الأرض تقصف.
هي مهنة البحث عن المتاعب لقليلي الحيلة، ومهنة البحث عن الخلود للشغوفين فقط
وترانا نحن وبكلّ ما نتفاخر بتقديمه حتّى اللحظه عاجزون عن تعريف عدونا بنا، أو حتّى إخطاره بوجودنا على كوكب واحد، يا لكل هذا الضعف. أمس كانا فرح وربيع أصدَقنا، أكثرنا شغفاً بحقيقة الشغف وبإعطائه حقّه، والذي ما اقتصر على الحضور جسدياً خلال ساعات العمل، بل ببثّ روح المهنية وتوزيعها حصصاً على الحاضرين، كـ"فراشة" على حدّ وصف إحدى زميلاتها، أخلصنا للصحافة من يموت في سبيلها، نحن الأحياء ما يزال ينقصنا الكثير من مهنيتهم ومناقبيتهم والتزامهم، التي يشهد لها زملاءهم داخل الميادين وآخرين ممّن صادفوهم خارجاً، فعلاً هي مهنة البحث عن المتاعب لقليلي الحيلة ومهنة البحث عن الخلود للشغوفين فقط.
اليوم توارى فرح في ثرى مشغرة والحياة فعلاً لن تدوم وسنعانق من نحب عملاً بوصيتها، فيما الغبيري ستحتضن جسد ربيع إلى الأبد، لتبقى دماءهما المتناثرة على أرض الجنوب بوصلتنا الصحافية حيث سننظر إليها ونتابع الطريق كما أرشدنا سابقاً حمزة الحاج حسن. ليس وداعاً يا رفاق إنّما إلى اللقاء برجاء ألّا يطول ذاك اللقاء.