الخشية من أن يكون تعديل التعميم 158 هو إشارة إلى عدم إمكانية إقرار أيّ من القوانين الإصلاحية عمّا قريب
"أن تستحصل من وديعتك المتبخّرة، دولارات طازجة، أفضل من انتظار إعادة تكوينها"، قال أحد المودعين معلّقاً على تعديل التعميم 158، مؤخّراً. "إذ لطالما كانت إضاءة الشمعة، خير من لعن الظلام". هذا الجمع بين الخنوع والتفاؤل بإمكانية إعادة الاموال، الذي أبقى عقل المودعين "في رؤوسهم"، طيلة الأربع سنوات التي مضت، يطرح من الزاوية النقدية جملة من الأسئلة المشروعة.
قبل أقلّ من شهرين بقليل، وتحديداً في 28 أيلول الفائت، جزم حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري أنّ "هناك استحالة بتوسيع رقعة التعميم 158، الذي أتبناه جملة وتفصيلاً، وزيادة دولار واحد للمستحقّين، قبل إقرار القوانين الإصلاحية". وقد انطلق منصوري خلال اللقاء التشاركي في "المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي"، في وسط بيروت، من جملة اعتبارات نقدية لتبرير العجز عن توسيع التعميم ليطال بعض الشرائح الاجتماعية، وفي مقدّمتها ممّن حولوا حساباتهم الدولارية من مصرف إلى آخر بعد اندلاع الأزمة.
توسيع التعميم 158 بين الماضي القريب والحاضر
ومن أهمّ المبررات كان:
- فرملة العمل بالتعميم 154، نتيجة صدور خطّة التعافي لحكومة الرئيس نجيب ميقاتي، في نهاية العام 2021. فهذا التعميم الذي فرضه المجلس المركزي لمصرف لبنان بعد تعيينه بأربعة أشهر في آب من العام 2020 هو الذي سمح بإقرار التعميم 158. حيث نصّ التعميم 154 بشقّ منه على "إلزام المصارف زيادة رساميلها بنسبة 20 في المئة، وتكوين حساباً خارجياً حراً من أيّ التزامات لدى مراسليها في الخارج لا يقلّ في أيّ وقت عن 3 في المئة من مجموع الودائع بالعملات الأجنبية لديها كما هي في 30 أيلول 2022. وقد نتج عن هذا القرار رفع رساميل المصارف بقيمة 4 مليارات دولار، وتكوينها 3.4 مليار دولار من النّقد الطازج في المصارف المراسلة في الخارج. وهو ما سمح لها بتنفيذ التعميم 158. إلّا أنّه مع صدور خطّة الحكومة أصبح "من غير المنطقي طلب زيادة رساميل المصارف في حال كان المطلوب شطبها"، بحسب منصوري. "وأيّ من المصارف لن يبادر إلى زيادة سيولته واستقطاب استثمارات جديدة في حال كان مصيره الخروج من السوق".
- إقرار قانوني إعادة هيكلة المصارف، والكابيتال كونترول. وعندها تصبح المصارف أكثر قدرة على رفع قيمة السحوبات. ويصبح بإمكان مصرف لبنان وضع السيولة المتبقية لديه بقيمة 8.5 مليار دولار بشكل تدريجي بتصرّف المودعين.
التوسيع يثير التباساً في التوقيت
المفارقة اليوم تتمثّل بـ: عدم تحقيق أيّ شرط من هذه الشروط لتوسيع العمل بالتعميم 158. ليشمل كلّ من حوّل وديعته الدولارية من مصرف إلى آخر عقب الانهيار، وبشرط ألّا يكون قد طُبّق عليها التعميم 151. وعلى الرغم من أحقّية هذه الشريحة المستوفية الشروط، الاستفادة من التعميم أساسا، إلّا أنّ الطرح بهذا التوقيت بالذات "لم يكن موفقاً"، بحسب خبير المخاطر المصرفية الدكتور محمد فحيلي. إذ أنّ الحاكم كان قد صرّح في وقت سابق بأنّ المصرف المركزي لن يقف عائقاً في وجه المودع لسحب ودائعه بسعر الصرف الرسمي عندما تصدر موازنة 2024.
عقبات أمام توسيع التعميم 158
أما بالنسبة لتوسيع العمل بالتعميم 158 قبل تحقيق الشروط الإصلاحية، فيرى فحيلي أن "ما جرى هو توسيع رقعة الحسابات، بدلاً من رفع حصّة تلك المستفيدة إلى ما بين 600 و800 دولار كما كان مخططاً له سابقاً مع صدور التعميم 154 وتحديداً لجهة زيادة المصارف لأموالها الطازجة لدى مراسليها إلى حوالي 3 مليارات دولار". وعلى الرّغم من محدودية التوسيع واقتصاره على من حوّل أمواله من مصرف إلى آخر، دون الذين قبضوا تعويضاتهم بعد العام 2019، وذوي الاحتياجات الخاصة، وكبار السنّ من المودعين، ممن أصبحوا عاجزين عن العمل والإنتاج.. فإنّ تطبيقه قد يواجه عقبات للأسباب التالية:
- إبداء المصارف عجزها عن تمويل إضافي. إذ أنّ حساباتها المكوّنة في الخارج تبلغ بحسب جمعية المصارف 1.7 مليار دولار، دفعت منها بالفعل ما يقارب 800 مليونا في الفترة السابقة لتمويل التعميم 158 مناصفة بينها وبين مصرف لبنان. وبالتّالي زيادة الأعباء عليها قد تكون مرهقة. خصوصاً أنّ حسابات المركزي بامتلاك المصارف 3.4 مليار دولار في الخارج لا تعود حصراً لتكوينها 3 في المئة من ودائعها نقدا"، بحسب فحيلي. "إنّما أيضا لالتزامها تطبيق التعميم 150، الذي يفرض عليها أخذ مؤنة 100 في المئة من الحسابات الطازجة المفتوحة لديها، ويمنع على المصرف اعتبارها سيولة لصالحها. ذلك أنّه أوجب عليها توفير 100 في المئة غبّ الطلب لصاحب الإيداع ". ويذكر فقط بأنّ المبالغ النقدية في المصارف تقّدر اليوم بحدود 1.8 إلى 2 مليار دولار وتعود إلى 200 ألف حساب.
- تطلّب تطبيق التعديل ما بين 3 إلى أربعة أشهر على أقلّ تعديل. ذلك أنّ المصرف المحوّل إليه الرصيد يجب أن يدرس طلب المودع، وما إذا كان الحساب يستوفي الشروط ومن ثمّ إعادة المبلغ إلى المصرف المحوّل منه وفتح حساب خاص متفرّع من المبلغ للاستفادة من التعميم 158.
- إمكانية استنسابية البنوك في قبول الطلب من عدمه وما إذا كان مستوفياً للشروط.
- عدم قبول المصرف المحوّل منه إعادة فتح الحساب في حال كان هناك دعاوى قضائية عليه من قبل المودع.
- الطلب من المصارف عمل إضافي معقّد.
كان من اللافت جداً تراجع حسابات رأس المال للمصارف من 6.5 مليارات دولار في نهاية آب 2023 إلى 4.7 مليارات
الأرقام المصرفية لا تبشّر بالخير
بالتزامن مع تعديل التعميم 158 أصدرت جمعية مصارف لبنان تقرير الاقتصاد العام، والذي أظهر استقرار ودائع المصارف التجارية لدى المصارف المراسلة على 4.4 مليارات دولار، إلّا أنّه كما ذكرنا سابقاً فإنّ هذا الرقم لا يعبّر عن السيولة المكوّنة بحسب التعميم 154 إنّما أيضا عن الالتزام بتطبيق التعميم 150. وكان من اللافت جداً تراجع حسابات رأس المال للمصارف من 6.5 مليارات دولار في نهاية آب 2023 إلى 4.7 مليارات. وهذا يعود إلى الطلب من المصارف ألّا تُسجَّل في بند "حسابات رأس المال" سوى فروقات إعادة تخمين الأصول العقارية للمصارف الحاصلة على موافقة مصرف لبنان حصراً. وإلى تراجع رأس المال الأساسي بالعملات الأجنبية نتيجة انخفاض في الاحتياطيات والعلاوات وتخصيص جزء من رأس المال. كما أظهر التقرير تراجع عدد فروع المصارف التجارية داخل لبنان إلى 737 فرعاً في نهاية تموز 2023، ووصل عدد العاملين في القطاع المصرفي إلى 14693 موظفاً في نهاية الشهر المذكور مقابل 15537 شخصاً في نهاية العام 2022. فيما تراجعت الودائع بالعملات الأجنبية إلى حدود 91.7 مليار دولار بعدما كانت قبل الأزمة تقدّر بحوالي 135 مليار دولار.
أمام كلّ ما تقدّم يظهر أنّ جمر الأزمة يتّقد تحت رماد الانشغال بالفراغ السياسي والحرب الدائر في غزة وجنوب لبنان. والخشية من أن يكون تعديل التعميم 158 هو إشارة إلى عدم إمكانية إقرار أيّ من القوانين الإصلاحية عمّا قريب، ولا حتّى إعادة هيكلة المصارف أو انصاف المودعين. فيرضوا بالفتات بانتظار جولة أخرى من المماحكات.