مشروع موازنة العام 2024، يذهب كليًا بعكس ما تنصّ عليه النظرية الإقتصادية...
النّاتج المحلّي الإجمالي هو عبارة عن مدخول بلد مُعيّن (قطاع عام وقطاع خاص) خلال عام كامل. ويُعتبر النّاتج المحلّي الإجمالي من أهمّ المؤشرات الإقتصادية، ويتكون هذا النّاتج كنتيجة لنشاطات إقتصادية تمّ تصنيفها بحسب المعادلة التالية:
النّاتج المحلّي الإجمالي = الاستهلاك الخاص + إجمالي الاستثمار الخاص + الاستثمار الحكومي + الإنفاق الحكومي + التصدير – الإستيراد.
وينصّ الدستور (في كلّ دول العالم تقريبًا) على أنّ مسؤولية إدارة اللعبة الإقتصادية هي من مهام الحكومة، حيث تضع خططاً إقتصادية مدعومة بقوانين لرفع الناتج المحلّي الإجمالي بشكلٍ مُنتظم، وهو ما يُعرف بالنموّ المُستدام. وهذا النموّ يبلغ عادة في الإقتصادات المُتطوّرة حدود الثلاثة بالمئة، وفي الإقتصادات الناشئة أكثر من أربعة بالمئة. وفي التفاصيل تنقسم مهام الحكومة الإقتصادية إلى ثلاثة أجزاء:
الجزء الأول – التوازن الداخلي، حيث من المفروض على الحكومة تنفيذ الإجراءات اللازمة لضمان العمالة الكاملة (full employment) واستقرار الأسعار (prices stability)؛
الجزء الثاني – التوازن الخارجي حيث تعمل الحكومة على ضمان حساب جاري (Current Account) يكون قريب من الصفر؛
الجزء الثالث – إيجاد سعر صرف للعملة الوطنية يتلاءم والجزئين الأول والثّاني.
هذه الإجراءات تدخل ضمن خطّة تُسمّى خطّة إقتصادية وتحوي على شقّين سياسة مالية وسياسة نقدية (مُستقلة عن السياسة المالية لكنها تؤمّن الدعم لها).
وبالنظّر جليًا إلى مكونات الناتج المحلّي الإجمالي نرى أنّها بعيدة كلّ البعد عن تأمين نموّ إقتصادي مُستدام. أكثر من ذلك مشروع موازنة العام 2024، يقضي بالكامل على هذه المكوّنات وعلى إمكانية إرتفاع مساهمتها في النّاتج المحلّي الإجمالي:
الاستهلاك الخاص
من المعروف أنّ مُساهمة الإستهلاك في الناتج المحلّي الإجمالي تفوق الـ 60% في مُعظم الإقتصادات. وبالتّالي تعتمد العديد من السياسات الإقتصادية على تحفيز الإستهلاك الداخلي لتحفيز النموّ الإقتصادي. هذا التحفيز يعتمد على زيادة القدرة الإستهلاكية للمواطن سواء من خلال رفع الأجور (إذا ما كان النشاط الإقتصادي يسمح بذلك) أو خفض الضرائب على المواطن لحضّه على إستخدام الفائض في الإستهلاك.
إلّا أنّ مشروع موازنة العام 2024، يذهب كليًا بعكس ما تنصّ عليه النظرية الإقتصادية، حيث أنّ الضرائب والرسوم على المواطنين إرتفع بعضها أكثر من 30 ضعفًا (بعض البلديات رفعت 60 ضعفًا الرّسوم والضّرائب حتى قبل صدور قانون الموازنة!!). أكثر من ذلك، الدولة تدفع للمواطن على سعر 15 ألف ليرة (الأجر الشهري للموظّفين، وحسابات المودعين في المصارف) وتُلزمه دفع الفواتير والرسوم والضرائب على سعر منصّة صيرفة. وهنا نتساءل عن التبرير الإقتصادي لهذا الرّفع في الضرائب؟ وكيف تأمل الحكومة بوضعها هذه الضرائب، رفع الناتج المحلّي الإجمالي؟
إجمالي الاستثمار الخاص
أدّت الحرب التي عصفت بسوريا في العام 2011 إلى خفض الإستثمارات الأجنبية المباشرة بشكل كبير (إنخفضت أكثر من 55%). ولم تُساعد الأحداث السياسية والأمنية التي مرّ بها لبنان منذ العام 2011 وحتّى يومنا هذا على إعادة ثقة المُستثمرين الأجانب بالإقتصاد اللبناني. لا بل على العكس شهدنا ونشهد خروج العديد من الشركات التي كان مقرّها الرئيسي في لبنان، هجرة إلى دول إقليمية أخرى.
وأتى مشروع موازنة العام 2024، ليقضي على أيّ أمل في جذب الإستثمارات الأجنبية مع وصول الضرائب إلى ما يوازي الـ 40% (بين ضريبة الدخل وضريبة الأرباح...) وهو ما يعني أنّ لبنان فقد ميزته التنفاسية مع الدّول الإقليمية الأخرى وبالأخصّ الإقتصاد الإسرائيلي الذي إختارته طريق الهند – أوروبا كممرّ لها.
الاستثمار الحكومي
في كلّ الموازنات التي شهدها لبنان قبل أزمة العام 2019، كان الإنفاق الإستثماري لا يزيد عن 4% من إجمالي موازنة الحكومة التي كانت آنذاك تتراوح بين 12 و18 مليار دولار أميركي سنويًا. إلّا أنّه وبعد بدء الأزمة تراجع الإستثمار بشكلٍ مُلفت، ففي مشروع موازنة العام 2024، إرتفعت نسبة الإنفاق الإستثماري إلى 6%، إلّا أنّ حجم الموازنة أصبح مليار دولار أميركي مما يعني أنّ الإستثمار الحكومي تراجع بالقيمة بشكلٍ كبير.
الإنفاق الحكومي
قبل أزمة العام 2019، كان حجم الدوّلة في الإقتصاد يزيد عن 33% من إجمالي الإقتصاد (18 مليار دولار أميركي حجم الموازنة مقارنة بـ 54 مليار دولار أميركي حجم الإقتصاد). وهذا الإنفاق مان بالدرجة الأولى إنفاق في الأجور وإنفاق جاري. اليوم وبعد إنخفاض الموازنة إلى مليار دولار أميركي، تراجع الإنفاق الحكومي إلى أقلّ من 6% من الناتج المحلّي الإجمالي (18 مليار دولار أميركي). فكيف تأمل الحكومة تحقيق نموّ إقتصادي؟
التصدير
بدل أن يحثّ مشروع موازنة العام 2024 الشركات اللبنانية المُصنّعة على زيادة الصادرات بهدف إدخال العُملة الصّعبة إلى السوق اللبناني من خلال الإستثمار، ها هو يُثقل الصناعة الوطنية بكافة أشكال الضرائب والرسوم. وهو ما يعني أنّ هناك إحتمالين: إنتقال بعض الشركات المُصنّعة إلى الخارج، أو التهرّب الضريبي عبر القيام بنشاطات غير مُصرّح عنها. ممّا يعني تراجع الناتج المحلّي الإجمالي.
لا يوجد أيّ نظرية إقتصادية تضع ضرائب على نشاط إقتصادي في أوقات الأزمات
الإستيراد
منذ العام 2011 ولبنان يُستخدم كقاعدة لوجستية للشركات السورية لإستيراد السلع والبضائع من الخارج. وطالما أنّ الدولارات كانت تأتي من سوريا لتمويل هذه العملية، لم يكن هناك من مُشكلة على صعيد الإقتصاد اللبناني. إلّا أنّه ومع قلّة الدولارات واستخدام التجّار اللبنانيين السوق اللبناني ودولاراته لتمويل الإستيراد السوري، أصبح هذا الإستيراد عبئًا كبيرًا على المُستهلك اللبناني وعلى المالية العامة. فماذا فعلت الحكومة لكي تلجم هذا الإستيراد غير الشرعي؟ لا شيء. في الواقع، مشروع موازنة العام 2024 حمّل التجار الشرفاء وزر ما يقوم به المُهرّبون.
من كل ما تقدّم يُطرح السؤال التالي: أيّ نظرية إقتصادية إتّبعت الحكومة في وضع مشروع موازنة العام 2024؟ وكيف تأمل تأمين النهوض الإقتصادي؟
التحليل يُشير إلى أنّه لا يوجد أيّ نظرية إقتصادية تضع ضرائب على نشاط إقتصادي في أوقات الأزمات. بل على العكس، الواجب وضع ضرائب على الموارد غير المُستخدمة في الإقتصاد مثل الضرائب والرسوم على الأملاك البحرية والنهرية. وهنا يحقّ للمراقب طرح السؤال عن مسؤولية "حكومة تصريف أعمال" في هذه الحال؟ ألا يتوجّب مساءلة الحكومة (حتّى ولو أنها حكومة تصريف أعمال) عن الإجراءات التي تضعها في موازنة العام 2024 خصوصًا أن أسعار النّفط إرتفعت ثم إنخفضت من دون أن يكون هناك تعديل في الموازنة، وأنّه لا يوجد سعر صرف موحّد في هذه الموازنة؟ ألا يجب السؤال عن الخلفية الإقتصادية لهذا المشروع أو عن إحتمال نقص بالمعرفة أو (لا سمح الله) تواطؤ مع الخارج؟ من يُدير لبنان إقتصاديًا؟ وما هو دور الحكومة في الإقتصاد؟
كلّها أسئلة تحثّ المواطن اللبناني على الكفّ عن التبعية العمياء للقوى السياسية في القضايا الإقتصادية، وفرض ولو حدّ أدنى من المعايير عند وضع ورقة التصويت في الإنتخابات النيابية.