هل صور الجثث والضحايا تصبح عاديّة، فيتعوّد الفرد عليها ولا يعود يتأثّر بها؟ وهل تلهي المشاغل اليومية النّاس عمّا يحصل في غزّة؟

منذ انطلاق الحرب الإسرائيلية على غزّة، وتطارد مشاهد العنف والقتل والدمار والقصف والحرائق، الأفراد المتابعين لهذه الأحداث في الدّول العربية وحول العالم. وتلازم صور جثث المدنيين المشوّهة والمتفحّمة من أطفال ونساء ورجال، ذاكرتهم، وتزرع الخوف والقلق والتوتّر في نفوسهم. حيث ملأت أخبار الحرب على فلسطين الصالونات، والمقاهي، ومختلف وسائل الإعلام المرئيّة منها والمسموعة، فحتّى مواقع التواصل الاجتماعي تحوّلت بدورها إلى مصدر لتناقل هذه الصور والأخبار الحزينة المليئة بالطّاقة السلبيّة.

ففي قطاع غزة المحاصر الذي يبلغ طوله 41 كيلومترًا ويتراوح عرضه بين 6 و12 كيلومتراً ويتكدّس فيه 2,4 مليون شخص، تتوالى مشاهد آلاف القتلى والجرحى والنّازحين بين أنقاض شوارع وأحياء دمّرت بكاملها في القصف والغارات الإسرائيلية.

الفرح أصبح خيانة

وسرعان ما تحوّلت هذه المشاهد إلى مشاعر غضب، وعجز، لدى البعض، فيما وجد كثيرون صعوبة في إكمال حياتهم بشكل طبيعي. وكأنّ إحساس الفرح أصبح خيانة والرّاحة خيانة، أمام أوجاع ومعاناة ومصائب الشّعب الفلسطيني. فتوقّفت أشغال العديد من الناس، وعلى رأسهم الممثّلين، والفنّانين، والكوميديين، وكلّ من يرتبط عمله بعالم الترفيه. وتأثّرت بدورها المحلّات التجارية (من ألبسة ومفروشات وغيرها) كما المطاعم والمقاهي، والفنادق وحركة السياحة في لبنان. وسيطر مشهد الحداد على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث توقّف العديد من المشاهير والمواطنين عن نشر صورهم احتراماً للأرواح التي تسقط في فلسطين.

وبعد مرور أكثر من شهر على اندلاع الحرب، بدأنا نلحظ بعض المشاهد التي توحي بشبه عودة إلى الحياة الطبيعيّة، حيث عاد المشاهير إلى مشاركة صورهم ويومياتهم مع متابعيهم، كما عاد التيكتوكرز إلى نشاطهم المعتاد، وعادت الإعلانات على مواقع التواصل الاجتماعي، وعادت الحركة إلى الأسواق التجاريّة والمطاعم.

وهو ما يجعلنا نسأل، عن الحالة التي ينتقل إليها الأفراد بعد مشاهدتهم بكثافة لمشاهد عنف وقتل ودمار، فهل تبقى مشاعر الخوف والقلق والغضب أم أنّها تزول مع مرور الوقت؟ وهل صور الجثث والضحايا تصبح عاديّة، فيتعوّد الفرد عليها ولا يعود يتأثّر بها؟ وهل تلهي المشاغل اليومية النّاس عمّا يحصل في غزّة؟

مشاهد القتل لا تنسى

في جوابها عن هذه الأسئلة تقول المتخّصصة في علم النفس، الدكتورة لانا قصقص، أنّ "التجارب الأليمة والعنيفة للحروب، لها تأثير مباشر على الأطفال والكبار، وتؤثّر على سلوكهم حيال مجتمعهم وبلدهم ونظرتهم لبلدهم، وعلى مواقفهم الذاتيّة، وعلاقتهم مع الآخرين وعلى نظرتهم للحياة. حيث يعيدون بناء نظرتهم استناداً إلى الصدمة التي تعرّضوا لها في الحرب".

وأضافت أنّه "أثبتت الأبحاث أنّ الأشخاص الذين شاهدوا تجارب مؤلمة وقاسية، لا ينسون التجارب التي شهدوها، إلاّ أنّ البعض منهم يلجأ إلى استراتيجيات تأقلم عادة تكون دينيّة، حيث يلجأ بعضهم إلى الدين أو إلى بعض المعتقدات، كآليّة تأقلم ليتمكّنوا من متابعة حياتهم اليومية".

واعتبرت أنّ "الانسانيّة تفرض على الأشخاص التعاطف، فالمشاهد الدمويّة تسبّب معاناة نفسيّة لأصحابها، إلاّ انّ البعض يلجأ إلى آليّة الإنكار، وهو ما بدأنا نشهده مؤخّراً، حيث لجأ العديد من الأشخاص إلى اعتماد سياسة عدم التفكير أو التحدّث عمّا يحصل، ومقاطعة جميع الأخبار المتعلّقة بالأحداث في غزّة، وتجنيب تعرّضهم لهذه الصور والمشاهد القاسية. وإن شاهدوها، فدماغهم يقوم بعمليّة بلوك لتحصين الصحّة النفسيّة وحمايتها من هذه المشاعر، إلاّ أنّ ما يحصل بالفعل هو أنّ هذه الصور تتراكم باللاوعي ولا إراديا عند الأفراد، وكلّ ما في الامر أنّ الدماغ يحاول صدّها إلاّ أنّها ترسّخت وانطبعت في لاوعينا، وهي ستؤثّر إن شئنا أم أبينا في بنيتنا النفسيّة، وستجعلنا متوتّرين ومنزعجين. وطبعاً طريقة التعبير عن التوتّر يختلف من شخص إلى آخر، فمنهم من يعبّرون عنها بطريقة عنيفة، وآخرين بآليات تكيّف إيجابيّة".

أثر تعرّض الأطفال لمشاهد العنف

من جهّتها تشرح راوية عيتاني، ميتاكوتش متخصّصة بالصورة الذاتية، في حديثها لموقع "الصفا نيوز"، أن ّ"أوّل اكتساب لمشاهد العنف والدماء والجثث، لدى الأفراد، يتبلور منذ الطفولة، في الأفلام وخصوصاً في الألعاب، حيث يألف الأطفال المشاهد العنيفة، ويشعرون بلذّة في قتل العدو أو الانتصار عليه. وارتبطت مشاهد القتل من خلال الألعاب الألكترونيّة بلذّة النّصر. وبعد أن اعتاد ذهن الأولاد على تقبّل القتل والدماء، تتحوّل العادة إلى شعور بالقلق والتوتّر فور مشاهدتهم لجثث حقيقية ودماء حقيقية لأطفال مثلهم، حيث تنتقل المشاعر من التعاطف مع القاتل إلى التعاطف مع الأطفال الأموات. وهو ما يخلق ازدواجية في المشاعر ونوع من الضياع والتشتّت لدى الطّفل، وعدم التمييز بين ما يراه وما يلعبه مع عدم القدرة على التحليل المنطقي والاستنتاج السليم للظرف والموقف الذي هو فيه. كما تظهر نتائج هذه المشاهد بسلوك عدواني لدى الأطفال وقلق من التعرّض للأذى، واستعداد دائم للدفاع عن النّفس حيث أثبتت الدراسات وجود صلة وثيقة بين السّلوك العدواني ومشاهدة صور العنف".

التعوّد على مشاهد الدماء

وهذه المشاعر ترافق الكبار أيضا، تتابع عيتاني، "إلاّ أنّ هؤلاء تعوّدوا على الحروب بدورهم، خصوصاً من هم في الخمسينيات من العمر وما فوق، أيّ من شهدوا على سلسلة حروب وأزمات مرّت على لبنان، وبالتّالي لا تعود الحرب بالنّسبة إليهم مشهداً صادماً، حيث أنّ تكرار رؤية المشاهد الدمويّة أصبح أمراً عاديّاً بالنّسبة لهم وخلق نوعاً من التقبّل لديهم. فالعقل والحواس، من سمع ونظر، تعوّدت على هذه المشاهد. ولم تعد تشكّل صدمة لديهم".

"ولا شكّ بأنّ مشاعر القلق والحزن والعجز، وتأنيب الضمير (أنا لا زلت على قيد الحياة فيما غيري يُقتل كلّ يوم) تبقى موجودة، وترافق الأفراد"، بحسب عيتاني، "ويفكرون بأنّ هذا العالم ليس آمناً، وأنّ الحياة ليست عادلة، وتراودهم أسئلة وجوديّة. بالتوازي مع قبول ضمني للحرب والموت ومشاهد العنف والدماء، حيث يكون الدماغ قد برمج لتقبّل هذه المشاهد على المدى الطويل".

وأشارت إلى أنّ "البعض يلجأ إلى رفض هذه المشاهد لوعيه بأنّ مشاهدته لهذه الصور سيؤثّر عليه سلباً، لكون العقل يخزّن كلّ ما نراه، فتظهر المشاهد المخزّنة إمّا على شكل كوابيس أو على شكل شريط فيديو قبل النوم، حين يسترجع العقل كلّ ما شهده خلال اليوم. ولا فرق بآثار المشاهد العنيفة، بين من يختار مشاهدتها ومن يختار عدم مشاهدتها، فالأثر السلبي هو نفسه على الطرفين".

وبناء على ما تقدّم، نستنتج أنّه وإن حاول البعض إكمال حياتهم بشكل طبيعي، في محاولة للابتعاد عمّا يحصل في غزّة، وعدم التأثّر به، وإن بدا لنا أنّ الحياة الطبيعيّة عادت إلى قواعدها القديمة، إلاّ أنّ الأثر النفسي لما سمعناه، وشاهدناه، يبقى مخزّناً في عقلنا الباطني، وقد يعود إلى الواجهة من جديد فجأة، وهي فاتورة الحروب التي يدفعها كلّ انسان ولو لم يكن مشاركاً فيها.