تُظهر المؤشّرات الاقتصادية هشاشة الاقتصاد اللبناني وعجزه عن تحمّل المزيد من الصدمات والمفاجآت غير المحسوبة
أتت عملية "السيوف الحديدية" التي "يفرم" بها كيان العدو الشعب الفلسطيني بوحشية، بمثابة "شحمة على فطيرة" تمييع المسؤولين اللبنانيين للإصلاحات الجوهرية. وإذ كانت "أفضل طريقة لنسيان مصاب جلل، الانشغال بما هو أعظم"، على حد ما يعتقد البعض، فإنّ الخوف من الحرب المحتملة شغل اللبنانيين بما هو أهم من تبخّر ودائعهم وانهيار اقتصادهم. ساعد على ذلك ترسخ ثقافة "بالمال ولا بأصحابه" ليتراجع الاكتراث تدريجياً بالحقوق، تمهيداً لتلاشيها بشكل كلّي.
يوم أمس أصدر بنك عودة التقرير الاقتصادي عن الفصول الثلاثة من العام الحالي. وقد تبيّن بالأرقام تراجع ودائع الزبائن في القطاع المصرفي من 168.4 مليار دولار في نهاية تشرين الأول 2019، إلى 95.6 ملياراً في نهاية آب 2023. ما يعني أنّه في غضون أربع سنوات إلّا قليل، استنفد المودعون 43 في المئة من ودائعهم. معظم المبالغ سحبت بغير قيمتها الحقيقية وبـ "هيركات" لم يقلّ عن 65 في المئة في معظم السنوات. ولم يبق في القطاع المصرفي إلّا 92.2 مليار دولار بالعملة الأجنبية، و51.1 ترليون ليرة، تعادل 3.4 مليار دولار بالليرة اللبنانية، بعدما كانت قيمتها تعادل 34 مليار دولار على سعر صرف 1500 ليرة. ومن الأرقام اللافتة كان ارتفاع نسبة دولرة الودائع من 73.4 في المئة في تشرين الاول 2019 إلى 96.4 في المئة في آب 2023. وقد هدف نقل الودائع من الليرة إلى الدولار للمحافظة على قيمتها. بيد أنّ الخطّة الحكومية ستعيد ردّ كلّ المبالغ المحوّلة إلى الدولار بعد تشرين الأول 2019 إلى الليرة، ولن يستفيد المودعون بشيء، وهم في الاساس لا يستفيدون من التعميم 158 الذي يسمح بسحب ما بين 300 و400 دوار طازجة من الحسابات الدولارية.
مخاطر الحرب أكبر
هذه الأرقام على سلبيّتها، تبقى "أهون" من إمكانية اندلاع حرب شاملة من قبل كيان العدوّ على لبنان. إذ يشير رئيس فريق الأبحاث الاقتصادية في بنك عودة الدكتور مروان بركات إلى أنّ "كلّ توسع للنزاع إلى الأراضي اللبنانية قد يكبّد لبنان خسائر اقتصادية هائلة. إذ قد يؤدّي ذلك إلى تكبير الفجوة بين الناتج المحلّي والناتج المحتمل تحقيقه والتي تصل الآن إلى 70 في المئة. كما ستؤدّي إلى مفاقمة معدل التضخم، المرتفع أصلاً، والذي يقارب 250 في المئة، وإلى زيادة الفقر والبطالة اللتين يفوق معدّلهما حاليا 80 و30 في المئة على التوالي، كما سيقود حتماً إلى تآكل سعر صرف العملة الوطنية والقدرة الشرائية لعموم المواطنين اللبنانيين".
الخلل في التجارة الخارجية
الخلل البنيوي في الاقتصاد لم يقتصر على المؤشّرات النقدية، إنّما انسحب على أرقام التجارة الخارجية. وفي الوقت الذي كان يفترض أن يؤدي انهيار العملة الوطنية إلى تراجع الواردات وارتفاع الصادرات، كما يفترض المنطق الاقتصادي، حصل العكس. إذ تقلّصت الصادرات في الأشهر السبعة الاولى من العام الحالي بنسبة 24 في المئة، بالمقارنة مع الفترة نفسها من العام الماضي. وتراجعت من 2.1 مليار دولار، إلى 1.6 ملياراً. فيما لم تنخفض الواردات إلّا بنسبة 9 في المئة من 10.8 مليار دولار إلى 9.8 ملياراً. وذلك على الرغم من رفع الرسوم الجمركية، واحتسابها على سعر صرف السوق، بدلاً من 15 ألف ليرة كما كان في العام 2022.
ارقام الصادرات مشكوك بها
أرقام التجارة الخارجية "المستقاة" من الإحصاءات الجمركية "لا تعبّر عن حجم الحقيقي للصادرات" برأي عضو مجلس إدارة جمعية الصناعيين، ورئيس تجمّع الصناعيين في كسروان بول أبي نصر. وهذا التراجع غير طبيعي لسببين:
- الاول، عدم مطابقتها مع أرقام المنتجين المحليّين، والتي بيّنت عقب مراجعة الجمعية معهم عدم تراجعها.
- الثاني، عدم مطابقتها مع أرقام الواردات من لبنان في الدول المصدّر إليها، وتحديداً الاوروبية. ففي حين تبيّن أرقام الاتّحاد الأوروبي استيراداً فاق 400 مليون دولار من لبنان في الأشهر الماضية، يظهر رقم الصادرات اللبنانية أقلّ بكثير ولا يتجاوز 150 مليون دولار.
وبحسب أبي نصر فإنّ "جمعية الصناعيين طلبت من الجمارك مراجعة الأرقام والتدقيق بها". من الناحية الثانية فإنّ "تحديد الصادرات اللبنانية بشكلها الحقيقي أو قيمتها الفعلية، يقتضي إزالة صادرات الذهب واللآلئ من جدول التعريفات"، برأي أبي نصر. "فقبل العام 2019 كانت أرقام واردات الذهب والأحجار الكريمة التي تأتي تحديداً من إفريقيا، قريبة من أرقام الصادرات لهذه السلع. أمّا بعد العام 2019 فأصبحت صادرات الذهب الخالص كبيرة جداً. وقد بلغت على سبيل الذكر لا الحصر في العام 2020 حوالي مليار و475 مليون دولار. وبالموازاة تصدّرت سويسرا قائمة الدول المصدّر إليها". وهو ما يُفسّر بحسب أبي نصر بـ "محاولة اللبنانيين إخراج أموالهم على شكل ذهب وسبائك". وتغيّر هذه النسب وانخفاضها هذا العام لا يعني أنّ الصادرات الحقيقية للقطاعات المنتجة قد تراجعت.
ميزان المدفوعات فائض وهمي
في الموازاة. سجّل ميزان المدفوعات فائضاً بقيمة 1 مليار دولار خلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام الحالي، بعدما كان يشهد عجزاً كبيراً خلال السنوات الماضية. وذلك على الرّغم من تقلّص الموجودات الخارجية لمصرف لبنان بقيمة 1.3 مليار دولار. إلّا أنّ هذا لا يعني بحسب تقرير عودة أنّ "الأموال الوافدة زادت عن الخارجة، لأنّ سيولة المصارف لم تحقق نمواً إلّا بقيمة 200 مليون دولار من 4.2 مليار دولار إلى 4.4 ملياراً. بل إنّ الفائض ناجم عن تراجع المطلوبات الخارجية لدى المصارف بمقدار 3 مليارات دولار في أعقاب تعديل سعر الصّرف الرّسمي مقابل الدولار. ذلك أنّ قسماً من مطلوبات غير المقيمين مقوّمة بالليرة. وعليه فإنّ الفائض هو مسألة حسابية لا غير، ولا يعكس تدفّقاً صافياً في الأموال. وإذا اعتمدنا سعر الصّرف الرّسمي الثابت خلال الفترة المقاس بها، يكون ميزان المدفوعات عاجزاً بنحو 2 مليار دولار.
أمام كلّ ما تقدم تُظهر المؤشّرات الاقتصادية هشاشة الاقتصاد اللبناني وعجزه عن تحمّل المزيد من الصدمات والمفاجآت غير المحسوبة. كما تظهر الحاجة الماسّة إلى المباشرة فوراً بالإصلاحات قبل فوات الأوان.