غنيّ عن القول إنّ السلطة التي عجزت طيلة أربع سنوات عن تنفيذ التدابير الإصلاحية للخروج من أسوأ أزمة عالمية، تعمّها الفوضى، ومصابة بالشلل من رأس الهرم إلى أخمص القدم

جميل هو تحلّق نوّاب الأمّة حول مناقشة "خطّة الطوارئ الوطنية" في "ساحة النجمة". الجلسة البرلمانية الجامعة للجان المشتركة توحي بعودة اهتمام المسؤولين بأمور المواطنين والسهر على سلامتهم، ولو تخلّلها بعض الاعتراضات والكثير من التساؤلات. فليضع نحو ستة ملايين ونصف المليون نفر بين مواطن ومقيم أيديهم في "مياه باردة". فخطّة الطوارئ الوطنية "ستحميهم من تداعيات أيّ عدوان إسرائيلي واسع، وستؤمّن مستلزماتهم وإغاثتهم، في حالة حصول تهجير قسري واسع من ديارهم إلى أماكن أكثر أماناً في لبنان".

هذا على "القلم والورقة"، إنّما "على الأرض"، فالمقاربة مختلفة. إذ أنّ ما يحدّد نجاح أيّ خطّة من عدمه هو أمران: التنظيم والتمويل. وغنيّ عن القول إنّ السلطة التي عجزت طيلة أربع سنوات عن تنفيذ التدابير الإصلاحية للخروج من أسوأ أزمة عالمية، تعمّها الفوضى، ومصابة بالشلل من رأس الهرم إلى أخمص القدم. أمّا في ما يتعلّق بتمويل الخطّة التي تكلّف بحسب مراجعة بنودها مليارات الدولارات، فيكفي استعادة حرفياً ما ورد في الخطّة للاستدلال على جدّيتها. إذ تمّ تحديد مصادر التمويل عبر مصدرين أساسيين:

- الأول، من الخزينة حيث تعمل وزارة المالية على فتح اعتمادات للأمور الملحّة.

- الثاني، عبر المنظّمات الدولية التي باشرت بنقل بعض الإيرادات الموجودة، من برنامج إلى آخر. وخصوصاً في قطاعات الصحّة والغذاء والمياه. حيث ستقوم هذه المنظمات الدولية عبر مكتب منسّق الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة بطلب دعم مالي إضافي للقطاعات الأكثر حاجة.

التمويل المفقود

بعبارة أخرى، ستموّل الخطّة التي لن تقلّ كلفتها المباشرة عن 4.4 مليار دولار (2.8 مليار دولار خسائر مباشرة. و1.6 مليار دولار خسائر في المالية العامة، بافتراضات مبنيّة على مقارنة معيارية لما حدث في العدوان الإسرائيلي في تموز 2006) من مصدرين:

- طباعة الأموال

- التسوّل من الدول المانحة

وفي الحالتين النتائج كارثية، فالعودة إلى توسيع الكتلة النقدية بالليرة التي انخفضت مؤخّراً إلى حدود 58 ألف مليار ليرة، سيكون له تداعيات كبيرة على انخفاض سعر صرف الليرة مقابل الدولار إلى حدود خيالية. ما يعني المزيد من انهيار رواتب القطاع العام وامتناعهم عن العمل وتقلّص عائدات الخزينة. أمّا في ما خصّ الاعتماد على المصادر الخارجية، فقد أثبت انفجار المرفأ أنّ المساعدات لم تأتِ للدولة، بل للمنظمات الدولية، وجمعيات المجتمع المدني، نظراً لفقدان الثقة بالإدارة اللبنانية. وهو الأمر الذي لن يؤدّي إلى استنسابية في عمليّات التوزيع فحسب، وعدم كفايتها في جميع الأحوال، إنّما أيضا إلى تقويض سيادة الدولة اللبنانية والمزيد من الارتهان للخارج.

خطّة الطوارئ وإمكانيات التطبيق


عميد كلّيّة إدارة الأعمال في جامعة القدّيس يوسف الدكتور فؤاد زمكحل

خطّة الطوارئ، المرفقة ربطاً بهذا المقال، كبيرة، وتتضمّن عناوين كثيرة. فهي مؤلّفة من 23 صفحة مقسّمة على 8 قطاعات. كلّ قطاع تشرف عليه وزارة معيّنة بالتنسيق مع المنظمة الدولية المختصّة منها اليونيسف، ومنظمة غوث اللاجئين المعنية بمساعدة اللاجئين الفلسطينيين، والمفوضية العليا للاجئين المعنية بمساعدة السوريين... وكدلالة على حجم الاهتمام الرسمي بها، خرج 83 نائباً من أصل 94 نائب حضروا جلسة المناقشة، قبل أن يبدأ الوزراء المعنيّين بالردّ على الأسئلة وتقديم الإيضاحات. وأجمعت تعليقاتهم الخارجية على النقص الكبير في التمويل، وعجز الدفاع المدني والقطاع العام وموظفيه، والمستشفيات وقطاعات الطاقة من كهرباء ومياه... وافتقادها للقدرات اللوجستية لتطبيق بنود الخطّة. "والحقيقة أنّه لا يمكن للبنان على صعيد قطاعيه العام والخاص وضع أيّ خطة طوارئ"، بحسب عميد كلّيّة إدارة الأعمال في جامعة القدّيس يوسف الدكتور فؤاد زمكحل. "لأنّ البلد فَقَد كلّ مقومات الصمود المالي والنقدي والاجتماعي والأمني". ولا يمكن من هذه الزاوية "مقارنة أيّ عدوان محتمل على لبنان بالعدوان الذي حصل في العام 2006"، برأي زمكحل، "حيث كان لبنان يملك مقوّمات الصمود في القطاعين العام والخاص. وللتذكير فقط فإنّ اللبنانيين خسروا نحو مئة مليار دولار من ودائعهم في القطاع المصرفي. وأنّ مؤسّسات الدولة مهترئة وغير قادرة على تأمين أبسط أمور الصيانة لمعدّاته والحدّ الأدنى من الأمور البديهية للمواطن". وعليه "لا ثقة بخطّة الطوارئ للحكومة، التي هي نفسها عجزت عن القيام بإصلاح واحد في وجه أكبر أزمة اقتصادية ومالية واجتماعية بتاريخ العالم".

طوارئ مستمرة



إذا كان الشيءُ بالشيءِ يذكر، فإنّ "لبنان منذ جائحة، كورونا، مكشوف صحيّاً واجتماعيّاً وتربويّاً، ويعيش في مرحلة زمنية عنوانها الطوارئ"، برأي الباحث في الشؤون الماليَّة والاقتصاديَّة البروفسور مارون خاطر. "وما قامت به الحكومة لا يمثّل تخطيطاً للانتقال من مرحلة عادية إلى مرحلة طارئة، تحسّباً من أيّ عدوان موسّع محتمل، بل تفكيراً باتّخاذ ترتيبات معيّنة لاحتواء أزمة محتملة قد تنتج عن توسّع رقعة الاشتباكات. وهذا أمر جيّد من حيث الشكل، لوقوعه في إطار تحمّل المسؤوليات، بينما في المضمون فإنّ المسؤولين يدّعون تحمّل ما لا قدرة لهم على تحمّل ما هو أقلّ منه في ما يتعلق بضبط الحدود ومنع التهريب ومراقبة الأسواق ووضع حدّ للغشّ وتفلّت الأسعار". ليبقى الأساس بحسب خاطر هو "الحؤول دون اندلاع الحرب، وليس التخطيط لما يمكن القيام به في حال حدوثها". ذلك أنّ "خطّة الطوارئ تنطلق من الانهيار والعجز وليس من حالة طبيعية يعيشها لبنان".

إهمال إعادة الإعمار

إذ قدّر للمسؤولين واستطاعوا إدارة خطّة طوارئ بمقدرات محلّيّة، على ضآلتها، ومساعدات خارجية فمن سيعيد الإعمار؟ فبعد عدوان تموز 2006 استطاعت الدولة التعويض بمبلغ 60 مليون ليرة، 40 ألف دولار، لأصحاب المساكن المهدّمة وصرف مساعدة بنسبة 20 في المئة كبدل تأثيث أي 20 مليون ليرة تقريباً، من قيمة مساعدة الترميم وإعادة الإعمار. ويظهر تقرير رسمي أنّ عدد المساكن المهدّمة جزئياً أو كليّاً في العام 2006 فاق الـ 20500 منزل. ما يعني أنّ كلفة التعويض على المتضررين بحسب ارقام 2006 تراوحت ما بين المليار و1.3 مليار دولار. وسيضاف إلى هذا الرقم مستقبلاً، تخصيص ما لا يقلّ عن 3000 دولار لكلّ وحدة سكنية لحقت الأضرار بنظام الطاقة الشمسية لديها. فما هذا الذي سيعوّض على المواطنين؟ وهل اخذ المسؤولون مثل هذه الأرقام بعين الاعتبار وقاسوا انعكاساتها على تعمّق الانهيار؟

لعلّ أخطر ما في "تجارة" المسؤولين، هو "بيع الأمل" للمواطنين. فيمنحونهم ما يريدون سماعه، ويحبطونهم، عند عجزهم عن تطبيق، ولو حرف واحد، ممّا يكتبون. فبضائعهم تأت على سراب كلّما اقتربنا منها كلّما بعدت. وما حصل مع خطّة الإنعاش الاقتصادي سيحصل مع خطة الطوارئ، ولن يكتب للمواطن في نهاية المطاف إلّا شراء المزيد من بضائع السلطة الفاسدة.