بمعيار عدد القتلى والدمار لدى كلّ طرف، حقّقت اسرائيل في حروبها المستمرّة على غزّة نجاحاً باهراً... عدا ذلك، وبكلّ المعايير الأخرى، لم تسجّل سوى الفشل
في عيون الإسرائيليين غزّة هي الأبشع، يتمنّون لو أنّ الطوفان يبتلعها وينهي معاناتهم معها، لكنّها في عيوننا هي الأجمل وهي الأبهى. هي أفقر المدن وأكثرها بؤساً وشراسة، لكنّها أقدرنا على إزعاج العدو وإقلاقه، هي كابوس نتنياهو وقبله أولمرت وشارون وبيريز وبيغن. عند أبوابها سقط كل القادة العسكريين الإسرائيليين الكبار، أمثال غانتس وايزنكوت وهاليفي وغالنت الذي لا يتوقّف في هذه الأيام عن الصياح والتهديد. يقول محمود درويش برتقال غزة ملغوم، وأطفالها بلا طفولة، شيوخها بلا شيخوخة، نساؤها بلا رغبات. نعم هكذا، ولم يبخل كلّ هؤلاء بالتضحيات فجعلوا تاريخها المجبول بالدم والشهادة يعادل تاريخ أمّة. لذلك هي الأجدر بنيل حبّنا واحترامنا.
أطفال غزّة لا يفضحون إسرائيل فحسب، بل يفضحون كلّ من حولها وأدعياء نصرتها. هم أضعفنا جسداً، لكنّهم أقوانا عزماً حتّى باتوا حامينا الوحيد، وحارسنا الأخير. يعطوننا الأمل ونعطيهم اليأس. يمدّوننا بالقوّة ونمدّهم بالضعف والتخاذل. يشجّعوننا بصمودهم، فنحبطهم بمسلسل الفتن والتخبّط والفوضى والتشرذم الذي لا يتوقّف. يفتحون لنا قلوبهم، فنقفل كلّ الأبواب في وجوههم، ووحدها أجسادهم الطرّية لا تزال تقاتل وتدافع عنّا جميعاً، ومع ذلك لم يتراجعوا ولم يُهزموا وهم يبقون وحدهم وينتصرون.
هي إدانة لمجتمع دولي يدّعي أنّه حرّ، ولم يكترث لحظة لأسوأ محنة إنسانية في التاريخ البشري
ليست "ثقافة الموت" لدى الفلسطينيين كما يدّعي الإسرائيليون هي التي تشجّعهم على تحدّي الاحتلال والمجازفة بالموت، بل الاحساس بالغضب والمرارة واليأس والرغبة الشديدة المتأجّجة في صدر كلّ شاب فلسطيني في التمرد على واقع الخنوع والخضوع والذل وتحدّي سلطات الاحتلال الإسرائيلي. تضحيات أطفال فلسطين صرخة غضب جماعية، ليس فقط في وجه المحتلّ بل أيضا في وجوه القيادات الفلسطينية التي هرمت وشاخت وابتعدت عن القضية. هي إدانة ممهورة بالدم لكل تجار القضية على الساحة الفلسطينية وخارجها. هي إدانة لمجتمع دولي يدّعي أنّه حرّ، ولم يكترث لحظة لأسوأ محنة إنسانية في التاريخ البشري. هي أيضاً إدانة لكلّ الحالة السياسية العربية التي ضيّعت فلسطين وضيعت معها شعوبها ودولها باسم الدفاع عن القضية.
الغارات الإسرائيلية مستمرّة وأعداد القتلى من الفلسطينيين تتزايد، والأخبار ومحاولات الاجتياح البرّي لا تتوقّف. وفى كلّ ذلك تقف غزة صامدة ومرفوعة الرأس ورافضة للانكسار والركوع. وحدها تفعل ذلك دفاعاً عن كرامتها وعمّا بقي للعرب من كرامة.
بمعيار عدد القتلى والدمار لدى كلّ طرف، حقّقت اسرائيل في حروبها المستمرّة على غزّة نجاحاً باهراً... عدا ذلك، وبكلّ المعايير الأخرى، لم تسجّل سوى الفشل، لذا لا نعجب لماذا يتمنّى قادتها لو يبتلعك البحر. يظنّون أنّك ضعيفة ويمكن استباحتك، لكنّهم كلّما حاولوا تأديبك فوجئوا بأنّهم أيضاً دولة هشّة غير قادرة على حماية مستوطنيها فلا مناطق آمنة من صواريخك البدائية المرعبة ولا قبّة حديد قادرة على ردعها ولا إدارة سياسية قادرة على الخروج من المأزق. مرّة أخرى سيرتدّ المهاجم خائباً. وستتعزّز مجدداً روح المقاومة التي لا همّ للإسرائيليين وأنصارها الذين يزدادون حقداً، سوى دفنها. ومرّة أخرى سيكشف زيف الأنظمة قديمها والجديد، وزيف المعارضات التي بأفعالها والسلوك جعلتنا ندعو في سرّنا إلى الحفاظ على القديم.
ليست الصواريخ التي تفزع إسرائيل وأصدقاءها، بل تلك العزيمة وذلك الصبر اللذان يظهرهما أطفال غزة وشيبها وشبابها ونساؤها. أولئك الذين يتحمّلون الوجع والألم ويرفضون القهر والمذلّة. ووحدها أجسادهم الطريّة لا تزال تقاتل وتدافع عنّا جميعا، ومع ذلك لم يتراجعوا ولم يُهزموا وهم يبقون وحدهم وينتصرون. هؤلاء ليسوا محاصرين، بل هم وحدهم الأحرار يدافعون عن أرضهم وكرامتهم ويقاتلون حيث يتوجب القتال. قوّة غزّة ليست بـ"حماسها" ولا بـ"جهادها" بل بأهلها الذين يمارسون إرادتهم ملء قرارهم، يتنشّقون هواء نظيفاً بين روائح الموت والبارود. أمّا نحن، فمحاصرون باليأس والإحباط و"المصالح القطرية"، وتعبق صدورنا بعفن "الواقعية" و"الاعتدال" و"الموضوعية"، ولا نفعل شيئاً سوى التمنّي والانتظار.
غزّة لا تيأسي ولا تعيري انتباهاً لتخاذلنا، ولا تتركي أمراضنا وعجزنا تثبط عزيمتك وتكسر إرادتك. وثقي فحسب بفتياتك وفتيانك الذين يدهشوننا ويدهشون العالم كلّ يوم. فبانتصاركم لن تحرّروا أرضكم فحسب، بل تجعلوننا نتحسس العفن الذي ينخر عظامنا.