تحوي الحرب الإقتصادية على عدّة أوجه، منها العقوبات والحصار الإقتصادي والمنافسة الشرسة والتضييق على مصادر الموارد الأولية...
الحروب في العالم لا تقتصر على الشقّ العسكري فقط، بل يضاف إليها أوجه أخرى وعلى رأسها الحرب الاقتصادية، التي تحتلّ المرتبة الأولى في العالم من ناحية الإنتشار. ويُفضّل السياسيون الحروب الإقتصادية على العسكرية، نظرًا للخسائر البشرية الناتجة عن هذه الأخيرة والتي تؤثّر على المسُتقبل السياسي للمسؤولين.
تحوي الحرب الإقتصادية على عدّة أوجه منها العقوبات والحصار الإقتصادي والمنافسة الشرسة والتضييق على مصادر الموارد الأولية... وإذا كانت المنافسة والتضييق هي الأوجه الأكثر إنتشارًا حتّى بين الدول التي بينها علاقات ديبلوماسية، وحتّى الصديقة حيث يُمكن إعتبارها حربًا غير مُعلنة، إلّا أنّ العقوبات الإقتصادية تُمثّل إعلاناً واضحاً للحرب الإقتصادية، وتُصنّف في خانة أدوات الدبلوماسية كـ "أداة حادّة" تمتلكها حكومات الدول لفرض واقع لا يُمكن تغييره في الحرب العسكرية، نظرًا لكلفته البشرية أو تداعياته التي قد تكون كارثية.
مارَسَ البشر الحصارات الإقتصادية على بعضهم البعض منذ قدم الزمن حيث يُخبرنا التاريخ أنّ الإغريق (اليونانيين) قاموا بفرض عقوبات تجارية على جارتهم ميغارا، وذلك في العام 432 قبل الميلاد. وحتّى يومنا هذا، المنافسة الشرسة للوصول إلى المواد الأولية والأسواق العالمية، تجعل الدول تقوم بممارسات عديدة منها حرب العملات التي استطاعت الدول ضمن مجموعة السبعة ضبط إيقاعها.
عمليًا لبنان خاضع – ولو بشكل غير مُعلن – لحصار إقتصادي وذلك منذ العام 2011
سجّل التاريخ العديد من الحصارات الإقتصادية على الدول لإجبارها على تغيير سلوك سلطاتها السياسي أو الإجتماعي، حيث ثبُت في العديد من الحالات أنّ مفاعيل هذه الحصارات على المجتمعات كارثية، من دون أن يكون هناك تغيير في سلوك هذه الدول. وبرهن عالم الاجتماع النرويجي "يوهان غالتونغ" أنّ هذه الحصارات لا تُعطي بالضرورة المفعول المطلوب من ناحية أنّ الناس تتأقلم معها، وأحياناً تلتف أكثر حول القيادة السياسية في البلد الخاضع للحصار. وأضاف "إن الطبيعة الجماعية تجعل الحصار مُضرّاً للمدنيين الأبرياء".
عمليًا لبنان خاضع – ولو بشكل غير مُعلن – لحصار إقتصادي وذلك منذ العام 2011 مع إنطلاق الثورة السورية، إذ يكفي النّظر إلى الإستثمارات الأجنبية المباشرة المرتبطة ميكانيكيًا بالنمو الاقتصادي، للتحقّق من وجود قرار سياسي في مكان ما، لسحب هذه الإستثمارات معطوفًا على تراجع أعداد السياح الأجانب والعرب.
وقد أخذ هذا الحصار أبعادًا خطيرة في العام 2019 مع تضييق شبه تام على تدفّقات رؤوس الأموال إلى المصارف اللبنانية، وهو ما أدّى إلى إندلاع أزمة المصارف التي كانت مكشوفة على الديون السيادية بنسبة تفوق الـ 65% بحسب تقرير صندوق النقد الدولي الصادر في آب 2019.
اليوم ومع إندلاع الحرب بين حركة حماس من جهة والجيش الإسرائيلي من جهة أخرى، يجد لبنان نفسه في مأزق من ناحية الدخول في هذه الحرب ووضع نفسه تحت مخاطر تدمير بنيته التحتية واقتصاده، خصوصًا مع السياسة التدميرية التي يتبعها الجيش الإسرائيلي، وبين عدم الدخول والإكتفاء بالالتزام بالمواقف العربية.
الواضح من خلال التحليل، أن لا مصلحة للبنان بالدخول في هذه الحرب نظرًا للكلفة الباهظة التي سيدفعها على الصعيد الاقتصادي، والتي قد تصل إلى 25 مليار دولار أميركي في حال نشبت حرب على شاكلة عدوان تموز 2006. أضف إلى ذلك التهديدات الغربية بعدم مساعدة لبنان في إعادة الإعمار في حال دخل الحرب إلى جانب حركة حماس ضدّ إسرائيل.
إلّا أنّ هناك جانبًا مُهمًا وهو مُهمل في التحاليل، ألا وهو ما ينتظر لبنان من حصار إقتصادي إضافي سيؤدّي حكمًا إلى ضرب الكيان اللبناني إلى عقود مستقبلية. وبحسب تحليلنا، بدأت معالم هذا الحصار الإضافي في الظهور مع بدء التعقيدات في مجال التأمين. ونرى أنّ هناك سلسلة من الخطوات التي قد تتخذها الدول والشركات المُشاركة في هذا الحصار، قد تظهر معالمها في المرحلة المقبلة على الشكل التّالي:
أولًا – رفع أسعار التأمين على الطائرات والسفن التي تؤمّن خدمات إلى لبنان، بحجّة الحرب المُشتعلة في المنطقة خصوصًا المواجهات التي تحصل على الحدود الجنوبية، وذلك بنسبة لا يُمكن للشركات اللبنانية تحمّلها، وهو ما يعني إمّا رفع أسعار السلع والخدمات لتحمّل هذه الكلفة العالية، وإمّا وقف التأمين وهو ما لا يُمكن أن يحصل نظرًا للمخاطر، وإمّا وقف نقل السلع والأشخاص من وإلى لبنان. وفي حال دخول لبنان الحرب مع إسرائيل بشكل موسّع، قد ترفض شركات التأمين العالمية تقديم الخدمات التأمينية للبنان.
ثانيًا – فرض قيود إضافية على دخول العملة الصعبة إلى لبنان – خصوصًا إذا ما دخل لبنان في الحرب مع إسرائيل – بحجّة المخاوف من أن تذهب الأموال المُحوّلة إلى جهات تُحارب إسرائيل.
ثالثًا – إرتفاع أسعار التأمين سيؤدّي إلى إضطرابات لجهة لوجستية تأمين المواد الغذائية والأدوية والمحروقات، وهو ما سيُشكّل الوجه القبيح لهذا الحصار.
رابعًا – نظرًا إلى أنّ لبنان أصبح يعيش على المساعدات الدولية خصوصًا في المجالات الطبّية والغذائية والمحروقات، قد يؤدّي الحصار المُحتمل إلى وقف أو أقلّه تخفيف هذه المساعدات بشكلٍ سيؤدّي إلى ضرب الإستقرار الإجتماعي بشكلٍ قد ينعكس تردّيًا في الوضع الأمني.
خامسًا – في حال وقوع حرب مع إسرائيل، ستعمد هذه الأخيرة بمنهجيتها التدميرية إلى ضرب البنى التحتية اللبنانية. وبالتالي وكما هدّد الغرب بعدم مساعدة لبنان في إعادة الإعمار في حال حصل هذا الأمر، سيكون لبنان تحت وطأة شلل كامل في مجال الخدمات العامّة ونقص كبير في المواد الغذائية والأدوية والمحروقات.
الجدير ذكره أن لبنان فقد مكانته الإستراتيجية كبوّابة للخليج العربي، خصوصًا مع طرح المجتمع الغربي وعدد من الدول العربية والأسيوية لطريق يربط الهند بأوروبا ويمرّ عبر الإمارات العربية المُتحدة والمملكة العربية السعودية والأردن وإسرائيل (عبر مرفأ حيفا) وعبر البحر إلى أوروبا. وهو ما قد يُبرّر تشديد الحصار إلى حين تبدّل المُعطيات السياسية المحليّة والإقليمية، والتي قد ينتج عنها إنفراج ولو جزئي للأزمة. إلى ذلك الوقت، نرى أنّ مخاطر الدخول في حرب مع العدو الإسرائيلي لا تتوقّف عند الدمار الذي سيخضع له لبنان جراء الإستراتيجية التدميرية لإسرائيل، بل سينسحب على الشقّ الإقتصادي من باب الإستثمارات التي ستغيب إلى فترة قد تكون طويلة، إلّا إذا تغيّرت المُعطيات.