عادة ما تتجاهل الأنظمة الحلول العملية التي تكون ماثلة أمام أعينها. الأسباب كثيرة، لكن أهمّها العادة...
تعاني البلديات من عجز مالي فاضح يكبّل يديها، ويُفقد القطاع الخاص شهيّة الاستثمار نظراً لغياب أبسط المقوّمات. وتتعاظم المخاوف من ازدياد الضغط على بناها التحتية في ظل احتمال امتداد نيران كيان العدو الإسرائيلي إلى لبنان، واضطرار قسم منها إلى تقديم خدمات تفوق قدراتها بأشواط. فالانهيار المالي عرّى شعار لامركزية البلديات التي لطالما تغنّت به شكلاً، وأهملت تطبيقه في المضمون. ومع ازدياد الضغوط الماليّة على البلديات، لدرجة تهدّد بتفجيرها، بالتوازي مع ازدياد الحاجات وتقادم الإنشاءات، أصبح البحث عن حلول بديلة واجب وليس رفاه. ولحسن الحظّ فإنّ الحلول عديدة، لا بل أكثر من ذلك فإنّ عنوان الحلّ يقع في صلب المشكلة.
عادة ما تتجاهل الأنظمة الحلول العملية التي تكون ماثلة أمام أعينها. الأسباب كثيرة، لكن أهمّها العادة. فـ "البلديات اعتادت على نموذج الدفع من قبل المكلّف، إمّا مباشرة من خلال الرسوم التي تستوفيها، وأمّا بشكل غير مباشر من خلال الرسوم التي تستوفيها المصالح المستقلّة والمؤسسات العامّة لصالح عائدات الصندوق البلدي المستقلّ"، بحسب ورقة بحثية أعدّها "المعهد اللبناني لدراسات السوق – LIMS". "وفي هذا النموذج، تموِّل البلديات كلفة تقديم الخدمات من خلال الضرائب والمال العام. ولكن البلديات فقدت مصدر دخلها الأساسي بسبب انهيار سعر الصرف من جهة، وانخفاض قيمة مستحقّات الصندوق البلدي وتأخّرها من الجهة الثانية". لذا تطرح "الورقة" الانتقال إلى نظام الدفع من قبل المستخدم بدلاً من المكلّف، والسماح للقطاع الخاص بتقديم الخدمات الأساسية.
مجالات التعاون
في أكثر من لقاء جمع فيه "المعهد" البلديات مع القطاع الخاص، تبيّن أنّ إمكانيات التعاون غير محدودة لتحقيق الصالح العام. وباكورة التعاون قد تكون في ثلاثة مواضيع رئيسية هي الكهرباء، النفايات والمياه. وتتمثّل هذه الآلية في استثمار القطاع الخاص في هذه القطاعات، مقابل تسديد رسوم للبلديات على أن تقوم الأخيرة بدور الحماية والرقابة. فيكون الجميع رابحاً: البلديات توفّر من نفقات لا تستطيع تحمّلها وتزيد إيراداتها، القطاع الخاص يرفع استثماراته ويخلق فرص عمل ويزيد النمو، والمواطن يحصل على خدمات بجودة عالية ومن دون انقطاع. وقد تحقّقت هذه الشراكة بالفعل في بلديتين، هما: تولا، التي أنشأت مزرعة للطاقة الشمسية بالتعاون بين البلدية والمجتمع الأهلي لتأمين الخدمة بنصف السعر المعمول فيه في بقية المناطق ومن دون انقطاع. وبيت مري، التي نجحت في حلّ مشكلة النفايات من خلال تلزيم جمع النفايات من المنازل ومعالجتها لشركة خاصة مقابل رسم اشتراك من المواطنين. فأزالت البلدية المستوعبات عن جوانب الطرقات ومنعت شرطتها رميها عشوائيا تحت طائلة الغرامات.
الإطار القانوني موجود
"ما يسهّل التعاون هو وجود الإطار القانوني لتنظيم الشراكة بين البلديات والقطاع الخاص"، يقول مدير عام الاستثمار السابق في وزارة الطاقة غسان بيضون. فالقانون 462/ 2002 (غير مطبّق بعد، لعدم تشكيل الهيئة الناظمة لقطاع الكهرباء) أولى صلاحية إعطاء أذونات انتاج الطاقة لغير الاستعمال الخاص لهيئة تنظيم قطاع الكهرباء. على أن يتمّ ذلك بموجب استدراج عروض أو مناقصة تجريها هذه الهيئة. من الجهة الأخرى أتاح قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص رقم 48/2017 للبلديات التدخّل في المشاريع المشتركة. وكذلك فعل مشروع قانون انتاج الطاقة المتجددة الموزعة.
هواجس البلديات والقطاع الخاص
الشراكة التي تلاقي استحسان البلديان نظراً لتراجع إمكانياتها من جهة وزيادة متطلّباتها من الجهة الثانية، تثير أسئلة عن البعد القانوني. خصوصاً "أنّنا خاضعون لقانوني الشراء العام والمحاسبة العمومية"، يقول رئيس بلدية البرجين محمد ياسين. "وعليه أقترح إقامة بروتوكول تعاون بين اتحاد البلديات والقطاع الخاص، يتضمّن عرضاً واضحاً للمجالات التي يمكن للمستثمرين ورجال الأعمال تنفيذها في البلديات، وما إذا كانت بديلاً عن خدمات الدولة أو مشاريع طويلة الأمد. وأن يضع المستثمرون مسودّة عن المشاريع التي تهمّهم وآلية الاستثمار بها. وذلك حتّى تكون البلديات على بيّنة من أمرها وتحدّد ما إذا كانت متوافقة مع المشروع ويحقق مصلحتها ومصلحة قاطنيها".
من الجهة المقابلة تبرز لدى القطاع الخاص خشية من التعامل مع البلديات. فالأمر يتطلّب بحسب سيدة الأعمال دينا ناصر الحركة أن "يكون القطاع الخاص على بيّنة من واقع البلديات التي تختلف بالحجم، والفعالية والتنظيم والقدرة. كما ويتطلب رفد القطاع الخاص من قبل وزارة الداخلية بالمعلومات وقاعدة بيانات وإحصاءات دقيقة عن واقع البلديات وحاجاتها وإمكانياتها". كما يخشى القطاع الخاص من الفوضى والفساد المستحكم في الكثير من البلديات على غرار مختلف إدارات ومرافق القطاع العام. وعليه على البروتكول أن "يتضمّن حاجة البلدية، وأن يكون هناك ضمانات معيّنة"، تضيف الحركة. "ذلك مع العلم أنّه من مصلحة القطاع الخاص الاستثمار بتسعيرة معقولة تؤمّن ربحيّته ومصلحة المواطنين".
ممّا لا شكّ فيه أن التعاون بين البلديات والقطاع الخاص بشكل محترف يوفّر من أعباء دفع التكاليف مرّتين، مرّة على شكل مساعدات إنمائية للمحيط الذين يعملون فيه لضمان استمرار أبسط الخدمات، ومرّة على شكل رسوم وضرائب للدولة من أجل تأمين خدمات لا تتوفّر في أغلب الأحيان.
مصلحة المواطن
بين وجهتي النظر تبقى مصلحة المواطن هي الأساس. وهذه المصلحة لا تتحقّق من دون توافر عنوانين أساسيين، الأوّل يتعلّق بآليّة عمل السوق من خلال تأمين المنافسة، فلا يتحوّل تقديم الخدمات من احتكار السلطة إلى احتكار شركة خاصة. والشفافية. ومراعاة محدودي الدخل، وهذا الأمر تحديداً قد يتأمّن بحسب بعض وجهات النظر من خلال آلية عمل السوق. فمن يستهلك أكثر يدفع أكثر. سواء كان الأمر يتعلّق برسم الكهرباء أو المياه أو حتّى من يخلّف كمّية أكبر من النفايات. أمّا العنوان الثاني الذي يجب توفره فهو توسيع وتعميم التجربة. إذ ما الذي يمنع المواطن من بيت مري مثلاً الذي يرفض الاشتراك بخدمة جمع النفايات من رميها في قرية أخرى. وبالتالي نكون ننقل المشكلة من مكان إلى مكان آخر. وهذا ما يتطلّب بحسب بيضون أن "لا نلغي دور الخدمة العامّة كلّيّاً إنّما أن نوسّع الخيارات بالنسبة للمواطنين".